التشبث بالحياة ومواجهة مرض كسرطان، أو الخضوع له والفشل في مواجهته، يختلف من شخص لآخر؛ ويلعب الوسط العائلي للمريض دورا حاسما في ذلك، فالعلاج يبدأ نفسيا قبل أن يكون كيماويا، لأن المصاب بالمرض الخبيث يكون في أمس الحاجة إلى الدعم النفسي أكثر من حصص العلاج بالأشعة.
وتتعدد قصص تضحيات العائلات من أجل مريض بالسرطان، كما تتنوع حكايات خذلانه في لحظة ضعف تجعله يعيش في جزيرة معزولة، لا رفيق له إلا السرطان.
زوجي ابتعد عني
حياة، اسم مستعار لسيدة شغوفة بالحياة، تجاوزت مرحلة المرض بنجاح، رغم أنه أخذ معه أحد ثدييها. تحكي عن تجربتها قائلة: “لا أخفي أن خبر إصابتي بالسرطان كان صادما للغاية، لم أستوعبه نهائيا..جرى كل شيء بسرعة، دخلت العيادة كاملة الجسد فخرجت منها ناقصة ثدي. لم يتوقف الأمر هنا، وبدأت معاناتي الحقيقية مع حصص العلاج الكيميائي. وبحكم أنني أقطن بمدينة لا توفر هذا النوع من العلاج، كان ضروريا أن أقطع أكثر من 300 كيلومتر عند كل حصة علاج بالأشعة.. كانت والدتي السند الوحيد في رحلاتي…”.
تصمت حياة لوهلة، وفي عينيها نظرة تعبر ندم من أمر ما، وتستطرد:”أنا سيدة متزوجة لمدة 18 سنة. عند إصابتي بالمرض كان زوجي أول من خذلني، كأنني لا أعنيه نهائيا.. فترة العلاج قضيتها بمنزل والدي، حتى أجد العناية اللازمة من عائلتي، ولم يكلف نفسه عناء زيارتي ولو لمرة واحدة طوال فترة علاجي؛ وما آلمني أكثر أنه كان يقول لأبنائي الثلاثة، الذين لا يتجاوز عمر كبيرهم 16 سنة، وصغيرهم 7 سنوات، إنه لا تجب زيارتي، لأن مرض السرطان معد…”.
نتهدت حياة بعمق وكأنها تزيح هما ثقيلا عن صدرها وابتسمت: “المهم أنني الآن بخير، وهذه التفاصيل لم تعد تهمني.. رغم أنني لازلت متزوجة بالشخص نفسه، فإن هدفي أن أرى أبنائي مستقبلا يصلون إلى مبتغاهم، فأنا أعتقد أنني عدت إلى هذه الحياة من أجل هذا الهدف” .
السرطان هزمنا
رشيدة، وبالرغم من أنها لم تكن مريضة بالسرطان، إلا أن هذا المرض قلب حياتها رأسا على عقب، بعد علمها بمرض زوجها بهذا الداء؛ لم تود الحديث في البداية عن هذا النوع من الذكريات القاتمة، لكن بعد محاولات ودية روت لنا قصة معاناتها مع مرض زوجها قائلة: “كان إنسانا متفائلا للغاية، حتى عند علمه بإصابته بالمرض اللعين وقف بكل عنفوان وكبرياء أمام المرض، لكن وبحكم أن اكتشاف إصابته بالمرض اللعين كان متأخرا، كان الأمل في الشفاء يتضاءل أكثر فأكثر…”.
صمتت لتمسح الدموع وقالت: “كنا عائلة شبه مشتتة، هو في مدينة وأنا في أخرى، بحكم العمل، أما بناتي الثلاث فكن عند عائلتي في مدينة غير التي نقطنها أنا وزوجي، لكن الذي جمعنا أول مرة نحن الاثنين كان العروة الوثقى في علاقتنا رغم المسافات.. كان أملي كبير أن ألتحق بزوجي ونعيش كعائلة تحت سقف واحد… “.
تكفكف دموعها وهي تحاول التجلد قبل أن تتابع: “المرض باغتنا في غفلة منا.. انقلبت حياتنا رأسا على عقب، وأصبحنا نعاني الفقر بحكم النفقات جد الباهظة على الأدوية والأعشاب، وأي شيء نأمل في أن ينهي معاناتنا مع المرض. خمس سنوات من العلاج ويا ليتها كانت شافية…انتصر المرض في الأخير”.
تركت لدموعها حيزا للتعبير قبل أن تتم: “أنا مؤمنة بالقضاء والقدر، وقد أسلم زوجي الروح إلى بارئها بين يداي. فعلا هو رحل من الحياة، لكنه لا يزال حاضرا في حياتي، من خلال ملامح بناتي، من خلال تصرفاتهم، ولو أعطيت فرصة للقائه مرة أخرى لهنأته على رباطة جأشه واستماتته في مواجهة المرض…رحمة الله عليه”.
علاقات على المحك
خلود السباعي، أستاذة في علم النفس الاجتماعي، أكدت لهسبريس أن الأمراض التي يحضر فيها الموت تضع علاقاتنا الاجتماعية على المحك، سواء العلاقات الزوجية أو البيولوجية بين الآباء والأبناء. كما أن المقاربة الحديثة لمرض كسرطان تستوجب “مقاربة نسقية”، أي إننا ننظر للمريض في وسطه الاجتماعي والإنساني، وكذلك إمكاناته الاقتصادية.
وأضافت السباعي أنه يستحيل أن ننظر للمريض كشخص وحيد دون سند يقاسمه محنة المرض، خاصة أن العامل النفسي يمكن أن يحقق المعجزات أثناء العلاج. وختمت أستاذة علم النفس الاجتماعي بأن مرحلة المرض قد تكون مفصلية في علاقاتنا الاجتماعية، فقد تزيدها توطدا أو تشتتها.