قاعة الأساتذة

[[ نهى بريس ]]6 يناير 2015
قاعة الأساتذة

IMG_0014

كتب فرانسوا رابلي قائلا :” أريدك يا بني أن تتعلم اللغات و تتقنها فتدرس أولا اللغة اليونانية ثم اللاتينية ثم العبرية لفهم التراث ، و كذلك العربية و الكلدانية ، يجب أن تكتب باليونانية كتابة أفلاطون بها ،

و اللاتينية كما كتب شيشرون ، و لا تدع فرعا من فروع التاريخ إلا و درسته ….. كما عليك بدراسة الرياضيات و علم الفلك و الشريعة و الفلسفة …… و لا تنس الإحاطة بكتابات كبار الأطباء الإغريق و الرومان و العرب ” .

ما يهمنا من النص روح معناه و فلسفته التربوية و نزوعه الموسوعي تجاه الابن ـ التلميذ العالم مستقبلا  ، لكن ما يعنينا أكثر هو الأستاذ ما دام أنه ” الأداة ” في مضمون قولة رابلي .

كلما دلفت إلى قاعة الأساتذة إلا و ينتابني إحساس نهضوي الجدران مليء بالقيم و التصورات و الخيال الرمزي يشمله قانون التنوير و يحفه مقاس العقل و المعرفة طبعا خارج النماذج الجاهزة ، أي ممارسة الفعل في بعده النظري القح بعيدا عن اجتماعياته و حاجاته النفسية و البيولوجية ( كأس شاي و قهوة ، روح النكتة و الدعابة ، مناقشة اليومي و مثبطات العمل التربوي ) ، غير أن كل هذه الأماني تصبح مجرد شريط أحلام تتقاطع شرائطه مع كل هبة ريح تسفوه و تجعله هباء منثورا ، إذ إن الولوج إلى قبة قاعة الأساتذة أضحى سلوكا روتينيا يقتات على الوهم و البعد التقني .

ينزوي كل واحد إلى ركن خاص ليمارس التسبيح الالكتروني بلذة لا توازيها إلا لذة العيش بأريحية و في بحبوحة الرغد و الهناء ، استسلام و خشوع يفضي إلى صمت رهيب تتعالى معالمه بادية على القاعة ، الموقف أشبه بجنازة أبطالها أحياء سرعان ما ينوء صوت من شدة السكينة :

            ـ هل شاطرتني صورة تلك الفتاة ؟ (باللغة الخاصة بالشات ) .

            ـ لا لم أشاطرك ، أنا لدي الكثير إنها صورة نهد و خصر و أرداف تنسينا القسم

            ـ هيا أرسلها .

            ـ في الحين .

يهمس آخر : لقد أرسلت لي صديقة صورة لها و هي فاتنة .

ـ آه كم النساء ” باغيات ” يظهرن خلاف ما يبطنن .

تتحول القاعة إلى عكاظ الكتروني تباح فيه الخصوصيات و تستمرأ فيه الإشاعة بدعوى مشاطرة المشاهد و تحقيق نسب المشاهدة العالية إمعانا في توسيع دائرة ” الشوهة ” .

و في لحظات الخواء و انصراف البعض تتحول أشباه المناقشة إلى عرض للأزياء و العطور و العضلات المفتولة و الأدهى أنقى ” خروج الريح ” (معذرة للقارئ).

تغدو القاعة في غالبية اللحظات مستنقعا تتعايش فيه شتى أنواع الهامشية و الهجانة ، وتسمو قيم التباهي و استعراض مشاريع القوة و تصبح لحظة مناقشة كتاب أو فكرة أشبه برهز ( لذة قوية ) محرم يختلس المتعة من وراء الجدران .

لقد تحولت المعرفة و القيم الثقافية في ” صالون ” الأساتذة إلى قيم للتشفي و الازدراء و التنقيص و الموت البطيء ، و أضحت الرغبة في السلم و الرتبة و لو بالغش ديانة تربوية كافر و رجعي من يعوقها و يرفض نعمتها، بل و أحيانا التباهي بأساليب الغش المتطورة للحصول عليها :

ـ أضع جميع الكتب على الطاولة و أفتش عن الأجوبة الصحيحة ، و إذا استعصى الأمر اتصل بصديق يتزامن حضوره أمام (الحاسوب ) مع فترة الامتحان ، و تحل بركات الشيخ ” غوغل ” الذي لا تخفى عليه خافية .

لا يوصف التعامل بالتكنولوجيا الحديثة عيبا في حد ذاته ، إذ المشكل في طبيعة الوعي باستعماله حيث تنتفي بموجب السلوكات المرصودة أعلاه علامات التواصل في بعده الفلسفي أي التفاعل الحميمي و اللغات المرافقة له من الإيماءة و الحركة و الاستدارة و الإشارات الأخرى الرمزية ، و ينتقل الأمر من غياب المعنى إلى سيادة سلطة و خطاب العنف بمختلف تجلياته و مظاهره ، و الاتجاه قسرا إلى الأنماط المرفوضة معرفيا و ثقافيا في التواصل و هي الحدية و تسويق الذوات بعيدا عن حقيقتها بشكل ينتج التحايل و تنويع الشخصيات و الأدهى القدرة على مسايرة هذا المسار بدعوى تزجية الوقت و الانفتاح على روح العصر التي وصلت عند البعض إلى تفضيل البارصا و الريال على الأمور التربوية و هموم الوطن حسب ما تعكسه الأنشطة الموازية التي لا يجب أن تتزامن و تتواقت مع مواعيد المباريات ، و أخوف ما نخاف عليه أن يتحول هذا الوباء الكروي إلى مقرر دراسي باقتراح من السادة الأساتذة .

قد تكون لهذا النقد و التصويب و الرغبة في أن تكون الأمور محددة على قالب مصاغ سلفا نوع من التجني و إغفال منطق العصر و لحظة الانتقال في الوعي و السلوك المرافق لبنية التحولات الاجتماعية (القيم ) و التقنية (سرعة تداول المعلومة ) قد يكون مبرر ما لهذه السلوكات و المسلكيات ، غير أن الطبيعة و الفلسفة المرافقة لهذا التحول تفتقر بشكل حاد و مرضي للمقوم المعرفي و الثقافي المصاحب لها ، إذ إن الخطاب و اللغة و بنية و نمط التفكير ترفل في مستنقع الغضاضة و التنطع يصعب فيها فهم ميكانيزماتها و آلياتها ، حيث إن سرعة المعطى التقني ( الهاتف و الكمبيوتر و الفضائيات و ما يرافقها ) أدى بطريقة آلية إلى تسريع آلية الفهم و التأويل و تسريع حتى الخطاب نفسه ، تعكس ذلك العديد من المظاهر الدالة على عنف اللباس و المغالاة في تسويق الذات ، و بقدر ما تتسارع هذه الخطى يتسارع معها ابتداع الأساليب و الآليات المنافية تماما للأعراف و التقاليد القيمية ( العمل الجاد ، ثقافة المسؤولية ، التربية و إعادة التربية ، القراءة و إعادة القراءة و تنويع مصادر الحصول عليها ) الأغرب أن وباء السرعة طال حتى ماسماه الأستاذ الجابري ( رحمة الله عليه ) بالعقل المستقيل ، بمعنى أن وحدة دراسية يمكن أن تتحول إلى نمط موحد بين العديد من الأساتذة من خلال تداولها و تعميم ” فائدتها ” دون القيام بالمجهود الشخصي الذي يضفي عليها تجديدا و تنويعا ولم لا اختلافا لما فيه من قدرة على الخلق و الإبداع و التجاوز .

إن الصور المألوفة من قاعة الأساتذة و هي كثيرة ، تدفعنا إلى مناقشة طبيعة الإطار التربوي الذي نرومه مستقبلا ، فإذا كانت الأداة مهترئة معرفيا و ضحلة ثقافيا فلن تصلح إلا من أجل الإفساد ( إنتاج قيم كمية لا نوع فيها ) ، و من ثم فالدعوة موجهة بالأساس إلى الذات التربوية المطالبة بتحسين مردودها المعرفي و تنويعه بعيدا عن قيم التخصص الذي يقتل يوميا الإمكانات الخاصة بالتطوير وفق روح ما ساقه رابلي سابقا ، لأننا كلنا تلاميذ في الميدان المعرفي ، و ليست الوظيفة بالمعنى الاجتماعي تقديم الاستقالة و العطاء المعرفي ، إذ هي في المقام الأول و الأخير مهمة المهمات تربية و تكوين المستقبل و الحاضر .

           الأستاذ رشيد اليملولي
error: Content is protected !!
مستجدات