رسالة كاتب متوفي

[[ نهى بريس ]]8 أبريل 2016
رسالة كاتب متوفي

ECRIVAIN

بقلم: شيماء الامغاري /نهى بريس/

 أنا ذاك العبد الضعيف ابن حليمة و محمد الاسكافي، لم اذهب للمدرسة قط و لم أتعلم فك الحروف ،في صغري سلبت مني طفولتي، فاكتفيت بمشاهدة الصغار يقفزون و يركضون يتشاجرون تارة و يتصالحون تارة أخرى، أما أنا فاكتفيت بابتسامة كانت ترتسم على محياي المرقط بالسواد ،كلما ذهب صاحب المراب (معلم الكراج ) العبوس السحنة لبيته لتناول وجبة الغداء.

أبي محمد كان يأتي كل أخر شهر ليقبض راتبي ،فلم أتمكن من شراء قطعة حلوى التي لطالما سال لعابي لرؤيتها ،و في احد الأيام أخذت درهما على غفلة من أبي ،و توجهت بسرعة البرق لدكان حينا، و اشتريت قطع حلوى التهمتها بلهفة كبيرة ،لكن مذاق الحلوى الشهي سرعان ما اختلط بطعم الملح المنهمر من العبرات ، التي فاضت كالسيل من على خدودي فبللت ثيابي ،من شدة الصراخ و الألم الذي عانيته من جراء جلدي بحبل مبلل، بعدما علم أبي بجرمي عندما اخبره صاحب الدكان عن قيامي بشراء قطع حلوى، طفولة أمضيتها أسفل السيارات ،و صفعات أتلقاها من صاحب المراب كلما خانتني يدي الصغيرة في تصليح إحدى قطع السيارات .

تراكمت الأعوام الحبلى بآلاف آلاف اللحظات ،اللواتي كن يرسمن نفس الوجه ،وجه طفل صغير ألقاه والده في مراب السيارات، طفل سجين بين الأقدار مجرد من أحلام الصبيان الوردية ، و فصول سنة لم يعرف أبدا ربيعها ،لم يلعب مع فراشاته الملونة ،ولم يتعطر برحيق زهورها ،ولم يربي دودة القز كسائر أبناء الحي .

كبرت تزوجت و رزقت بابنتي شهد، أسميتها كناية عن شهد العسل الحلو ،لأنها جعلت حياتي كقطعة سكر شهي،كنت اتاملها و كلما لامست أناملها الصغيرة تمنيت لو جعلت القصور مسكنها و وضعت الخدم و الحشم في خدمتها، لم ارغب قط في أن تعاني ابنتي ما عشته في صغري من حرمان و مأساة، فكر كان يؤرقني و يقلق مضجعي، فصرت ابحث عن وسيلة للاغتناء و توفير مستقبل زاهر لابنتي شهد. أحلام شريدة تسافر في الفضاء كسرب حمام مهاجر، تبحث عن موطن يحتضنها فسماء بلادي ضيقة و أشجاره عقيمة ،فأبحرت و الريح على قارب قالوا عنه الموت، فارتأيت امتطاء صهوته علها تاخدني لبلاد الأحلام.

أنا و خرير الريح الذي يشبه فحيح الأفاعي المتربصة و موج البحر الغاضب كقطيع ثيران هائج ،فعدت كالطفل ترتعد فرائسه انقطعت عنه أنفاسه و تفجرت نبضات قلبه فصارت تدوي كمدافع حربية و الليل يرثي حالي و يرثل ترانيم جنائزية ،ظلام الليل الشاحب يلاحقني كالغيلان المخيفة ، ابحث عن ملامحي، كيف هو شكلي و شكل ابتسامتي و رائحة الموت تفوح بالمكان و السماء الملبدة انطفأت عنها نجومها فلم اعد أرى شيئا وسط الظلام الدامس. اسمع صوت الأسماك المنتشية وهي تمني نفسها بوليمة، طبقها الرئيسي ،جسدي النحيل ،كيف كيف كيف سيكون موتي كيف ستبتلعني الداماء في أحضانها كيف سيسافر أخر رمق من روحي مغادرا جسده ، شهد تناديني أنا قادم يا بنيتي لا تخافي، سأهرب من كف الموت،سأعود لألثم جبينك الصغير لأنتشي من رائحتك بنيتي،سنلعب معا في الحديقة ، سأشتري لك أول كراسة و سأرافقك للمدرسة، سنرسم معا على الحائط و ننشد أغاني الصغار،سأحضر حفل تخرجك من الجامعة، و سأزفك لزوجك …

ها أنا ابنتك شهد، تعلمت أبي و ارتدت الجامعة تخرجت و اشتغلت مدرسة ادرس الصغار أعلمهم القراءة و الكتابة و الأهم أن يحبوا أهلهم، فقد أخبرتني أمي كم كنت تحبني،و بأنك قدمت نفسك قربانا للبحر لتحقق أحلامي التي لم تكن قد نبتت بعد في مخيلتي، و ها أنا اكتب عنك رسالتك لي يوم مماتك، كتبتها بروحك كأنك أنت أنا،في ذكرى مماتك اهدي حفيدتك دمية و اخبرها بأنها هديتك لها،فتسألني ببراءة الصغار لما لا يزورنا جدي،فاخبرها بأنك تسكن في السماء و سنزورك في احد الأيام.

error: Content is protected !!
مستجدات