قدم فيلم “طنجة مدينة دولية” 1946 من إخراج أندري زووبادا Zwobada صورة موثقة عن طنجة كمدينة مفتوحة يتجلى فيها الحضور الدولي على مستويات عدة… حيث نجد البريد من دول مختلفة، الطيران من شركات متعددة، العملات تصرف بحرية، الأديان متعايشة، العمران مزدهرا في منتصف القرن العشرين… وينتهي الفيلم بتساؤل قلق حول مستقبل المدينة وإلى أين ستكون وجهتها… إلى الشمال أم إلى الجنوب؟
بعد 66 سنة، مازال السؤال قائما، خاصة في عصر ازدادت فيه الهويات حساسية، وصار كل حدث عابر قابلا ليشعل نارا لا تبقي ولا تذر… ففي شمال طنجة، أوروبا تفقد ثقتها بنفسها، يسيطر عليها الرعب فيصعد اليمين المتشدد واثقا… يهدد بتحويل حياة المهاجرين إلى جحيم، يمين مسعور يجعل من الطماطم قضية وطنية تستحق الحرب… وعلى جنوب طنجة، يوجد انقسام شديد في المجتمعات بين الحداثة والتقليد… ينظر إلى الحداثة كمرادف للتعري… بينما الحداثة مفهوم شامل، يعني سياسيا فصل السلط وفكريا حرية البحث واقتصاديا المحاسبة والتدبير المعقلن… مفهوم صنع نهضة الغرب… مفهوم بلعته الأسلمة الذهنية السائدة، وأقصد بالأسلمة الذهنية تدينا لفظيا… وليس تدينا بالعمل للنهوض بالمجتمع.
أفكر في هذا وأنا أطل على البحر من نافذة مغارة هرقل، أرى البحر الذي يفترض أن يكون، حسب إدغار موران، بحيرة سلام تجمع أكثر مما تفرق…
رغم القلق فطنجة اليوم، بداية القرن الواحد والعشرين، مدينة ناهضة، العمارات تكبر كل يوم، ميناء المتوسط يعيد لها وزنها الدولي… ومهرجان الفيلم القصير سيسمح بإطلالة على مشتل السينما المتوسطية، لتقديم الاتجاهات الفنية الناشئة وتحسس أين وصل سؤال هويات المدن في المنطقة.
عرض فيلم “طنجة مدينة دولية” في افتتاح الدورة الثامنة لمهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة 2010، بعده عرضت عشرات الأفلام القصيرة من ضفتي المتوسط. وكانت هذه المقارنة نقطة انطلاق البحث الذي قدمته للحصول على شهادة الدكتوراه.
أنشر البحث بعد أن صورت سبعة أفلام قصيرة وتقدمت بطلب للحصول على بطاقة مخرج من المركز السينمائي المغربي، لكن اللجنة التي رفضت طلبي تعتبر أني لا أملك وعيا بفلسفة وميكانيزمات الفيلم القصير.
لنرى:
هذا العرض هو تفريغ للكراس الذي ملأته في الظلام، العين على الشاشة واليد تكتب على الورقة، عن عشرات الأفلام التي شاهدتها في المهرجان الذي سمح بإطلالة على طبوغرافية المجتمعات المتوسطية.
طبعا تتولى وسائل الإعلام يوميا تقديم تضاريس الخريطة السوسيو-اقتصادية لدول المتوسط، حيث أخبار غزة تحفر ونجاد يخطب في بيروت، مشاكل التوريث في مصر والتمديد الأبدي في تونس… ومحاكمة الأكراد في ديار بكر واعتصامات يائسة في بلد أرسطو وشبيبة مندفعة تحرق وتكسر في فرنسا فتمهد لساركوزي الطريق للفوز بولاية ثانية لأنه وحده القادر، حسب لفظه، على ضبط الحثالة التي تخيف التيار المركزي في المجتمع… وصراع الهويات على ضفاف بحيرة تتجمع حولها كل الأديان… وقد كان فيلم الافتتاح “طنجة مدينة دولية” مختوما بسؤال: أين ستتجه طنجة شمالا أم جنوبا؟
كان ذلك السؤال تعبيرا عن قلق هويات المدن. ولتكملة هذه الصورة، يحاول هذا المقال تقديم الاتجاهات الفنية الناشئة في مشتل السينما المتوسطية عبر استعراض طبوغرافية المتوسط سينمائيا من خلال أفلام المسابقة الرسمية، على صعيدي التيمات المتناولة في الأفلام والأشكال الجمالية الموظفة.
بداية، ولتدقيق تصور المقاربة، فإن مفهومي للفيلم القصير هو نفس مفهومي للقصة القصيرة، إنه تقطير للتجربة الإنسانية، التقاط للكثيف والدال في حيز زمني مضغوط.
وعندما أقبل على مشاهدة فيلم قصير أطرح افتراضين:
ـ أن يكون هناك بحث، جمالي أو موضوعاتي أو هما معا.
ـ أن يكون ذلك البحث موفقا، أن يكون بحثا مثمرا، مدهشا، يحمل لمسة تعكس وجهة نظر.
وتحقق افتراض واحد على الأقل في جل الأفلام المعروضة… وتحقق الافتراضين في نصفها، دون هذا تكون “المشاهدة معاناة”، كما قالت المخرجة فريدة بليزيد، عضو لجنة التحكيم، في تصريح لها. حين يتحقق الافتراضان فالفرجة تجلب البهجة…. لم أشاهد الأفلام فقط، بل راقبت أصحابها أيضا، أختبر نظرية فرانسوا تروفو “كل فيلم يشبه مخرجه”، أخمن حجم سعة خيال المخرج من مرونة تصرفاته… أتعقب لقطات شهيرة من أفلام عظيمة سبقت لي مشاهدتها… لأعرف المخرج الذي يشاهد أفلاما كثيرة ويلاحظ من ذاك الذي لا يفعل…
لنقم بجولة على زورق فينيقي في رحلة سينمائية متوسطية تنطلق من طنجة لتعود إليها، رحلة تأمل، ولهذا سوابق، فقد خضع المتوسط لتأمل الكثيرين، أشهرهم نورويتش، جون جوليوس في “الأبيض المتوسط تاريخ بحر ليس مثله بحر”، ومؤرخ الحوليات فيرناندبروديل، ثم إداغار موران، وأخيرا عبد الله العروي وهو يحاضر في الرباط بداية نونبر 2010 عن تأملات مونتيسكيو في تاريخ الرومان الذين طبعوا المتوسط بحكمهم وعمرانهم….
زورقنا الفينيقي غير مسلح كالروماني، يخرج من نافذة مغارة هرقل، يتجه شمالا، يعبر مضيق جبل طارق المحروس بالكاميرات لصد المهاجرين… تستقبلنا البرتغال بفيلم “بالجانب” لبازيل داكونا عن إطفائي يعيش عزلة رهيبة في أمسياته، يعشق جارته من خلف الجدار في أوقات فراغه، لذا يقضي وقته يضع أذنه على الجدار يسترق السمع… يتابع تقلبات العلاقة بين الجارة وحبيبها… عنف وحب… ذات مرة تسلل إلى الشقة، دخل تحت السرير ليتلصص… أدرك أن الجارة تحب منحوتات الحمام… بدأ ينحت لها واحدة حديدية… كان في بحث مرهق عن التواصل… تواصل معوج، يتم عبر الجدار لا عبر الباب… حين يطرق الباب يضع أمامه وردا ويختفي… ثم يعود لخلف الجدار سعيدا… كان اختيار الممثل جد موفق، يوحي وجهه الأملس الأصفر كأنه جثة. حين تعرضت الجارة العزيزة للعنف تدخل الإطفائي وقتل صديقها… وحده العنف عبَر الجدار.
في أفلام طنجة، ستتكرر تيمة الجدار كثيرا… جدران سميكة من العزلة تقوي البعد عن الآخر… عزلة تشمل حتى الحفلات كما في فيلم “الزفاف الأخير” لخورخي تسابو تزوكولو من إسبانيا عن لقاء أصدقاء قدامى ما عاد شيء يجمعهم، فيلم من صور جيدة وسيطرة تقنية تقدم قصة مشوشة، عاشق يحضر عرس حبيبته وهي تتزوج آخر، طريقة حكي دون لمسة دهشة… أشاهد وأبحث عن أفلام ذات أسلوب في تقديم موضوعها… الموضوع دون أسلوب لا قيمة له، يقول أندري بازان إن الأسلوب بالنسبة للموضوع يساوي ما تمثله الطاقة بالنسبة للمادة… الحرارة هي التي تشكل الذهب الخام ليصير قرطا يتدلى على نحر…
في الفيلم الإسباني الثاني “روديا” للمخرج خوانخو خيمينيز، عن الهوس بنجوم كرة القدم، يبحث البطل عن صورة تنقص في ألبومه… لا يجدها ليشتريها… يبحث عن اللاعب وقد كبر وصار سائق طاكسي، لم يعد نجما، يأخذه للملعب ويصوره ثم يضع الصورة في مكانها…. تغمره سعادة هائلة… نقف على “حدوتة” أخرى أضحكت الجمهور للحظة، كانت في فيلم “جدة قابلة للنفخ” لتيلمو إسنال، ففي رحلة استجمام لابد من شخص يرعى الأطفال ليتفرغ الزوجان للخلوة والغرام… أخرج الرجل جدة مثالية بلاستيكية نفخها كالعجلة فسلمها ابنيه لترعاهما فخلا له الجو مع زوجته… عندما أكثرت الجدة الملاحظات أفرغها من الهواء ووضعها في صندوق السيارة…
هل هذا هو المكان المناسب لكبار السن في المجتمعات الحديثة؟.
لنتبع الزورق:
من فرنسا جاءت أفلام مخيبة، فيلم “ثمانية ونصف” للوران تيسيي يتناول الحياة الصعبة لعمال مؤقتين هامشيين… يعيشون صراعا على خيارات ضيقة ومذلة… هذه ثمار “يجب أن تعمل أكثر لتكسب أكثر” حسب شعار ساركوزي الانتخابي، الشاب يعمل أكثر ولكن كسبه يذهب لكراء السكن… زميله يغامر في تجارة المخدرات… فيلم يكتفي بتصوير الواقع بدل أن يرقى للفن.
في فيلم “كالزون” لفانسون دوس ريس، نتعرف على زعيم عصابة في مطعم إيطالي يطلب طبق كالزون، يفاجأ بأنه بلا بيض، يرسل رجاله لإرغام الدجاجة على وضع بيضة فورا… بعد جهود مضنية يفترض أنها كوميدية لإضحاكنا وضعت الدجاجة بيضة… حين شاهدت صديقة زعيم العصابة مح البيضة طلبت أومليط. ستتعرض الدجاجة لمحنة جديدة.
يظهر هنا سحر تصوير “حدوته” anecdote تبدو أثناء كتابتها مسلية وأثناء تصويرها رائعة… عندما ينتهي المونتاج تصبح باهتة، لأن تصوير “حدوتة” في 10 دقائق مضجر.
“الحدوتة” لا تتطور، الحكاية أفضل، تتشعب أحداثها وتفسيراتها، كما في الفيلم الإيطالي “آخر أيامي في الحرب” لماطيو طونديني عن فلاح وقع بين جنود ألمان وأمريكان في نهاية الحرب العالمية الثانية، يحكي لحفيده ماذا جرى، لقد حاول النجاة بمصالحة الأعداء بطعامه وخمره فاتهم بالخيانة، شعر بالخوف… لكنه استرد شجاعته وصار ينتقد ويدافع عن نفسه… ثم جاءت شابة جميلة تحمل وردا… قدمت وردة للفلاح وأخرجته من بين البنادق المصوبة لبعضها… بقي الجنود لتصفية الحساب في ما بينهم…
يفرح الحفيد للنهاية السعيدة، حينها يخبرنا الجد بحقيقة ما جرى… لقد أدمت أعقاب البنادق جمجمته ولعلع الرصاص… يقدم الجد صيغتين للحكاية عن الحدث نفسه، حكاية تعطي للجد دورا مشرفا لكي لا تحبط الحفيد الذي لن يعرف أبدا هذا الوجه البشع من سيرة جده… وحكاية للتاريخ، بحقيقتها المرة والدموية… يشعر المتفرج بالبهجة حين يجد أن للفيلم معنى.
جرى اختيار موقع التصوير بعناية، في قمم جبلية… تشبه اللقطات بداية فيلم “سبارتاكوس” لستانلي كوبريك…
لم أشاهد فيلم “إي بيكس” لبيتار بوزيتش من سلوفينيا وقد كانت أصداؤه جيدة، لكن شاهدت “نزهة” لداليبور ماتيانيتش من كرواتيا، فيه الكثير من القبل، تليها مناظر طبيعية من شاحنة تسير ثم كثير من القبل… ثرثرة بصرية… مخرج يعاني ليملأ الصورة… يتسبب في إيقاع رتيب وصور غير متماسكة… الفيلم الآخر أفضل، يحكي “كعكة بالشوكولا” لدورويتا فوسيتس عن امرأة تفقد زوجها بينما كانت تعد له “كيك”، كانت متعتها أن يتذوق ما تعده، يبدو أنها تفكر هكذا: “أنا أطبخ إذن أنا موجودة”. مات الزوج.
لمن ستطبخ الآن؟
ستموت من العزلة… تفكر الأرملة في الانتحار، تعلق لنفسها مشنقة، تضع فيها رقبتها فتسقط أرضا… مازالت حية… تراقب مشردا من النافذة، إنه لص يدخل ليسرق فيجد “الكيك” ويأكله، فصارت تعد “كيك” يوميا ويتسلل هو للمطبخ ويأكل… حين تجد الصحن فارغا تفرح … تعتبر تناوله للشوكولاطة مصدر إشباع نفسي.. وجدت لصا يؤنسها، وجدت مع من تتواصل… حظها أفضل من الجدة في “نصف ساعة للجدة” ليوري بافلوفيتش؛ فيلم مدته 17 دقيقة عن عزلة جدة في قرية ريفية على الطريق، فجأة يزروها ابنها وحفيدها… جاءا ليأخذا منها شيئا ويبكيانها ثم يرجعا للمدينة…
من ألبانيا جاء فيلم “نحس في ثانية” لجنتيان كوسي، وفيه جرت حادثة، صورها شاب في ثانية بهاتفه المحمول، حين وصلت وسائل الإعلام المحترفة تجاوزها الحدث، صار الشاب الذي يملك الوثيقة خائفا… عليه ضغط… صارت الصور قنبلة في يد حاملها… وقد بيّن الفيلم التحول الذي صنعته التكنولوجيا في حياة البشر… صار التواصل، الذي هو سلاح احتكره الأقوياء في كل مراحل الحياة البشرية، صار هذا السلاح شائعا… يمكن أن يستخدمه شخص بالصدفة لإحداث أثر مهول… أشهر مثال تصوير رد ساركوزي على المواطن الذي رفض مصافحته في المعرض الفلاحي فوبخه: cassetoipauvre con.
تميز الفيلم بمهارة جيدة في استخدام الكاميرا لالتقاط التوتر… لكن الكتابة تعاني من نقص في المعلومات السردية، وهذا ما جعل الفيلم يمر في صمت…
من اليونان جاءت أكثر الأفلام عمقا، في “ميسيسينا” لصوفيا إيكسارشو شاب مريض يظن أنه يستطيع أن يحب… يعالج في مستشفى قذر… يتسلل ويتبع فتاة وحين يداهمه الألم يختفي… حين تتبعه وتكتشف حقيقته تجلس قربه… يسيطر عليها قلق عميق يعدي المتفرج… في فيلم “مازالت القطط تسقط فوق رأسي” لديميترا نيكولوبولو، نرى موظفة من الأزمنة الحديثة، عزباء نشيطة تسكن وحدها… تأتيها قطة في شقة أشبه بالقفص… تلد القطة أربعة… تنزعج الموظفة العزباء… تلقي القطط مع الأوساخ… ثم تظهر القطة تطالب بأبنائها… تنطلق الموظفة في حملة لاسترداد القطط… وحينها تعيش أمومة في مسار مائل… تأتي والدتها وتوبخها لأن رجلا لن يأتي إليها مع وجود صغار القطط… في الفيلم نبرة من استلاب شارلي شابلن في رائعة “الأزمنة الحديثة”.
تحفة المهرجان كانت فيلم “يمين يسار” للمخرجين أرجريسجي رمانديس وستافروس رابتيس، رجل في شقة ضيقة، يزعجه الضجيج لدى جاره من جهة اليمين، يطرق بابه بأدب ليطالب بقليل من الهدوء ليتمكن من النوم. يصفق الجارُ البابَ في وجهه قبل أن ينهي الجملة الوحيدة في الفيلم. يعود الرجل إلى شقته، يستلقي لينام، ثم يأتيه الضجيج من جاره الشمالي، خاصة أن الجدران في الشقق الحديثة هشة يخترقها الضجيج بكثافة… يطرق الرجل الباب، تخرج جارته، يكرر الجملة وتكرر سلوك الجار الأول، يعود الرجل لشقته فيجد الباب قد انغلق… يجلس في الممر الطويل، تعطف عليه جارته، تدخله وتعطيه كرسيا لينام عليه… لا يتبادلان كلمة واحدة… يبقيان على مسافة… جاران تفصلهما مسافة ضوئية… ينام الرجل… تستخدم الجارة الشمالية المكنسة الكهربائية… لكن الرجل لا يستيقظ… واضح أن الوحدة هي سبب أرقه لا الضجيج.
في الفيلم لغة سينمائية قوية، بصمت يمسك المتفرج… بعد نهاية الفيلم سألت المخرج:
ـ لماذا يعبر الضجيج الجدران ولا يعبرها الحب؟..
ـ بسبب العجز عن التواصل. (هذا جوابه).
طبعا، في ظل الاستلاب، نادرُ ذاك الذي يبذل جهدا لاختراق العزلة والتواصل الفعلي مع الآخر. في الندوة الصحافية بفندق شالة حظي فيلم “يمين يسار” بالجزء الأكبر من التعليقات والأسئلة… وكذلك كان الشأن بالنسبة للأفلام التركية، وقد جاء جلها من جنوب شرق البلاد حيث يهيمن صمت وعزلة في فضاء خرب وقاس… يحكي فيلم “ثلج” لإرول مينتاس عن جدة تلتقطها الكاميرا في لقطة عامة وتبدو صغيرة في الخلاء المحيط بها، فقدت ابنها وتمشي في الحقول، تمشي، تبحث… في “أصوات” لفيليز إيسيك بولوت نلتقي بقرويين فقراء يسكنون ملجأ قرب سجن في ديار بكر عام 1980، تنغص أصوات السجن حياة القرويين… خلفية صوتية للحياة… هنا جرح تركيا، “صقيع ديار بكر” حيث العزلة والتمرد وصعوبة العيش… لتصوير الطبيعة في الفيلم بعد وثائقي مع القطع بنظرات شخصية بئيسة تعطي الطبيعة بعدا دراميا…
حين ستلتقي هذه المهارات الفنية بعائدات نجاح مسلسلات (مهند ونور) ستتقدم السينما التركية… الجارة الجنوبية لتركيا متفوقة في المسلسلات أيضا، لكن للأسف لم أشاهد الفيلم السوري “شوية وقت” لماهر صليبي. وبما أنه لا وقت لنرسو في وطن زورقنا، يبدو أن أحفاد الفينيقيين ليسوا بخير، بخلاف ما توحي به ابتسامات هيفاء ونانسي، عن “وشم بالعين” قالت مخرجته اللبنانية يمني عيتاني إنها ستقدم شخصياتها دون بؤس sans misérabilisme… في الفيلم نتابع رحلة شاب بئيس تعرض لعنف مزدوج، يتنقل بين فضاءات خربة… نرى متاريس باب التبانة ووشم الرصاص على الجدارن… واضح أن المكان هو البطل في الفيلم… فيلم من ثلاثين دقيقة، كثير من اللقطات كان يمكن تقليصها دون أن تتقلص كمية المعلومات التي يقدمها السرد، وبذلك يتقلص الملل…
ماذا بعد لبنان؟
هذا هو ما ستتعلمونه من فيلم “الدرس الأول” لعرين عمري، وهي ممثلة انتقلت للإخراج.. تغادر وطنها لتستقر في باريس، ولكي تتواصل تلتحق بمؤسسة لتعلم الفرنسية، وفي الدرس الأول تسأل المدرسة المتعلمين من دول مختلفة عن البلدان التي جاؤوا منها، يصل دور بطلة الفيلم فتقول إنها جاءت من فلسطين، وتقوم إلى السبورة لتحدد على الخريطة موقع البلد… لكن متعلما يحتج ويسانده أمريكي لأن الموقع على الخريطة اسمه إسرائيل… يشتد الجدل في الفصل، وهنا تتعقد طبوغرافية المتوسط حين تخالف الخريطة اللغة في مسألة جوهرية: تحديد الوطن.
في مصر المشكل في السكن لا في الوطن، ففي “باب الخروج” ليوسف ناصر يريد شاب وشابة الاحتفال بذكرى حبهما في خلوة…
“أين يا مطار أثينا؟”
كما تساءل محمود درويش ذات قصيدة باسم اللاجئين.
واضح أن المخرج المصري مشغول بأزمة السكن، وهو يعكس محنة الشبان في بحثهم عن مكان للخلوة لممارسة الجنس قبل الزواج الذي يتأخر كثيرا… يتسللان لبيت أحد الأقارب وبعد خلوة بريئة يفقدان المفتاح… يريدون الخروج… كيف؟.
بدأ الفيلم بفكرة وحيدة القرن وانتهى بها، لم يطور السيناريست بذرة الحكي لتصير وردة فتفاحة… حتى الفيلم المصري الآخر ينتهي بتشريد شابة ويسمي ذلك أنه “الدنيا لما بتهذر”… فيلم لأسامة عشم صالح الذي أراد أن يحكي فبدأ يتفلسف… حين صعد المنصة لتقديم فيلمه ثرثر كثيرا… يبدو أن المخرج غير الواثق من فيلمه يحاول تبريره في التقديم…. وهو على أي أفضل من ليبيا التي لم تشارك لأن الأخ القائد العقيد صديق برسكوني لم ينتبه للسينما الإيطالية، وأنا واثق أن العقيد سيكون مخرجا جيدا، بدليل مهاراته الاستعراضية وكاستينغ حارساته وديكور خيمته وطرافة تنديداته وحواراته… لكن يبدو أن عدوى التنديد انتقلت إلى المخرج التونسي الشاب وليد مطر فجاء بفيلم “تنديد” عن جمهور يتابع في مقهى مقابلة في كرة القدم.. حين تنتهي المباراة يعيشون مباراتهم الكلامية، جدل ومهاترة… صاحب المقهى يريد زبناء يدفعون ثمن ما يشربون… زبناء يتابعون حربا جديدة على قناة الجزيرة، ينددون بالعدوان الإسرائيلي بحماس، مع ارتفاع درجات التعبئة الذاتية يقررون تغيير اسم المقهى من “ألأولمبي” إلى مقهى “المقاومة”… ينددون بكل الأشياء إلا بالأزبال التي تحيط بالمقهى، لا يرونها… مناضلو آخر زمن.
بني السيناريو على فكرة سياسية ساخرة، لمواطن يعيش انفصاما… يتعايش مع الأزبال عند قدميه… ولكنه مهووس بالتنديد…
الفيلم التونسي الثاني للمخرج أمين شيبوب واسمه “هوس”، وفيه نتعرف على شاب يستأجر شقة حديثا، يعمل في مركز اتصالات، يبيع سلعا لزبائن لا يرى وجوههم، يتملقهم بمهارة تجلب له رضى مشغله… صار مدربا على النفاق… حين يرجع لشقته ينزع قناع الشمع الباسم من على وجهه ويغرق في عزلته… يفر من ضغط حياة المدن والاستلاب الذي يعيشه بتأمل زر أحمر عثر عليه تحت لوحة في الشقة… يفكر في الضغط على الزر ويعيش كل الاحتمالات… يفترض أن تنفجر قنبلة أو ينهمر عليه شلال من النقود ليواجه به متطلبات الحياة اليومية… ومن فرط هوسه بالزر الأحمر العجيب جاءه صاحب الشقة يطلب سومة الكراء… فيلم صور عزلة الفرد واستلابه تحت ضغط سرعة إيقاع الحياة اليومية الذي يجرفه…
ضغط يدفع بطل الفيلم الجزائري “العابر الأخير” للانتحار، فيلم مفكك عن شخص يشاهد صور نجمة في إعلانات معلقة على الجدران… يدخل صالة ويغني أمام كراسي فارغة…يقفز من جرف… يقع ميتا… في المناقشة، تدخل المخرج مؤنس خمار مطولا ليشرح لنا، إنه يعرف ما يريد، لكن ما حصل عليه بعد التصوير كان مشوشا… اكتشفت أن المخرج المتكلف يكون فيلمه كذلك، مخرج لا يدرك السياق الذي جاء منه.
لا يحتاج المثقفون الجزائريون للانتحار، لديهم من يذبحهم من الوريد إلى الوريد، لذا صرخت آمال كاتب بفيلمها “لن نموت”، يبدأ بمكالمة هاتفية تضعنا في السياق من اللقطة الأولى، نعرف بعودة الصحفي من أفغانستان، حيلة سردية قدمت الحيثيات بشكل موجز ومهدت لتصوير حبيبة الصحفي متوترة تنتظر… لتطفئ شوقها لحبيبها… ليبدأ الاحتفال لابد من شرب كأس يبث الحرارة في الدورة الدموية، لكن لا يوجد مفتاح للقارورة، يتسلل الصحفي بين شقق العمارة يبحث عن مفتاح… ما كان يُعثر عليه بسهولة في جزائر الاشتراكية صار نادرا في سنوات الحرب الأهلية… يمر الصحفي على جيرانه لنكتشف عمق جزائر أواسط التسعينيات… ثم نرى العمارة من الخارج… ومعها يلتقط السرد أجواء الخوف باقتصاد… يدوي الرصاص… أفكر في اغتيال المثقفين الجزائريين عبد القادر علولة والطاهر جاووت ويوسف سبتي… ماتوا، بقيت الحبيبة وحيدة والقارورة مغلقة…
هذه أفلام المتوسط في طنجة، وقد كانت قاعة سينما روكسي تمتلئ عن آخرها تحت وفوق عندما يعرض فيلم مغربي، كانت الأفلام القصيرة المغربية في موقع مشرف، لجيل جديد من المخرجين الشبان، سيتربون في المهنة.
واضح أن الجمهور يتفاعل بقوة مع الأفلام التي تقدم قصة، بغض النظر عن موقع الكاميرا. القصة هي عماد أي فيلم يتحدى الملل، في كتاب “كيف تكون مخرجا عظيما؟” لكين دانسايجرDANCYGER يتردد فعل حكى وسرد في كل صفحة تقريبا… والسرد هو متوالية أحداث متتابعة سببيا… حين لا يتمكن المخرج من هذه التقنية التي تضمن له سردا متماسكا واضحا يتطور، حين يشعر أن صوره مفككة، مهما كانت جماليتها، يلجأ إما لراوي ثرثار ليشرح لنا ما نراه، السرد الشفهي ليس لغة سينمائية…
أو يلجأ للتجريب، ولأنه لم يضبط الوحدات الثلاث للسرد، وحدة الحدث والزمن والمكان، لب شعرية أرسطو، فإنه يسمي ما يفعله تجريبا من أول فيلم… التجريب بقواعد السرد أصعب من السرد الخطي… فكيف يجرب من لم يسيطر على السرد الخطي أولا؟
للتاريخ، لم يبدأ بابلو بيكاسو التكعيبية حتى أتقن الرسم على الطريقة الكلاسيكية… خطوة خطوة.
الملجأ الثالث للمخرج الذي لا يملك قصة يصورها هو تصوير “الحدوتة”، طبعا تملك الأحدوثة anecdote قوة وطرافة، سخرية وتأثير على المتفرج، لكونها محكومة بالصدفة والإيجاز الشديد – وهذه نقطة قوتها التي تسحر أي كاتب سيناريو يجد صعوبة في تأليف حبكة بنفسه – فإنه يصعب تطوير الأحدوثة سرديا لأن هذا التطوير ينزع عنها نقطة القوة حين تمطط وحين يجتهد الكاتب لشرح المقدمات المنطقية لتلك الصدفة… حين يفشل التطوير، تكون النتيجة هي سيناريو بفكرة وحيدة القرن، تعطي فيلم أشبه بنكتة تروى في ربع ساعة. شرح الأحدوثة أو النكتة يقتلها بدل أن يثمر بنية سردية للفيلم القصير. وهذا خطر يتهدد كل سيناريست يستسلم للفكرة الأولى التي خطرت له، يكتبها، كما هي. أفضل فيلم جسد هذا الوضع هو “جدة قابلة للنفخ”. (أنظر les formes brèves d’ALAIN MONTANDON p99).
القصة القصيرة أصلح للسيناريو من الأحدوثة، بل القصة القصيرة أنسب كمنطلق حتى للفيلم الطويل، يقول آرثر سي كلارك، مؤلف القصة القصيرة “الحارس”، والتي حولها ستانلي كوبريك إلى فيلم “أوديسا الفضاء 2001″، يقول:
“القصة القصيرة المؤلفة بإتقان ستكون مادة جيدة لفيلم روائي طويل، خصوصا أن الروايات الطويلة تفقد الكثير من مضمونها أغلب الأحيان عندما تقتبس لعمل سينمائي”، سيرة كوبريك ص328.
هذا على الصعيد الجمالي، أما على صعيد التيمات، فقد رأيت القلق في الأفلام من خلال عشر مشانق تنصب وأكثر من 40 سيجارة تشعل والكثير من المزابل والبول على الجدران، مدن وسخة، فضاءات تنذر بالخطر، عنف لفظي سخرية متبادلة، جدران رقيقة يخترقها الضجيج بسهولة، لكن لا يجتازها الحب… عزلة رهيبة للرجال والنساء في أفلام شمال المتوسط، في الجنوب المتوسط توجد جماعات بشرية شابة، لكن ليس هناك تواصل… الفردانية تطغى والاستلاب يتقدم…
يتضح أنه إذا كانت الطبوغرافية التي تقدمها وسائل الإعلام للمتوسط تقتصر على زورق يترنح وبرقع يتوسع ويمين يتقوى فإن الطبوغرافية السينمائية، التي يقدمها المخرجون الشبان أعمق وأشمل.
محمد بنعزيز// هسبريس