بقلم ذ.محمد منصوري “نهى بريس”
في الشوارع، في الأحياء وفي الملاعب… في البيوت، في المقاهي وفي المكاتب… لا يوجد حديث يعلو على كرة القدم. “ميسي” يُذكر خارج أسوار الكنيسة أكثر مما يذكر داخلها، و “الكلاسيكو” يُفرغ شوارع المدينة أكثر بكثير من وقت الإفطار في رمضان. كرة القدم باتتتشكل حياة موازية ولم تعد مجرد بحث عن التسلية، قد نفضلها على كثير من أولوياتنا وحتى أننا في كثير من الأحيان نغير برامجنا لتتناسب ومواعيدها.
الأغرب من هذا وذاك، هو أن كرة القدم أصبحت رمزا من رموز الهوية. فمن يكتسب الجنسية بفضلها، ومن تُمتحن مواطنته بسببها، ومن يحدد انتماءه فقط في اليوم الذي يرتدي فيه قميص المنتخب. كرة القدم أصبحت كذلك عنوانا للهوية الجماعية، لأنه في اليوم الذي يلعب فيه المنتخب الوطني من أجل التأهل لنهائيات كأس العالم، إما نكون أو لا نكون! …
كرة القدم لم تعد مجرد رياضة، إن كانت أصلا وجدت لهذا الغرض، لقد أصبحت منظومة اقتصادية عالمية وظاهرة اجتماعية لم يسبق لها مثيل. إنها ليست مجرد كرة… إنها ساحرة! فالساحرة المستديرة، كما يحلو للبعض تسميتها، تعد اليوم واحدة من أهم معالم النظام العالمي الجديد.
لكن على أطراف هذا المشهد الأخضر توجد فوضى…
لقد أخذت اللعبة مسارا مختلفا، وبات من المستحيل تفادي أضرارها الجانبية. فخاصية المنافسة التي تطبعها صار لها إطار ومنهجية وبعد عالمي، وتحولت اللعبة إلى مؤسسة إعلامية وتجارية دولية. المنافسة أساسا لا تخلو من مشاعر الأنا وحب الذات، فإذا صاحبتها آلة إعلامية هائلة وصرنا نجني من ورائها أموالا طائلة، تصبح حربا ضروسا. هذا بالضبط ما حدث في عالم الكرة، فقد تحولت اللعبة إلى نِزال والرياضة إلى قتال ورأينا بأم العين ملاعبا وكأنها ساحة معركة. فإذا كانت كرة القدم ظاهرة استثنائية تدل على الحضارة العالمية التي برزت في هذا العصر، فهي أيضا أفضل مرآة تعكس مدى التعصب المتجذر فينا بكل أشكاله.
المشكلة إذن ليست مشكلة كرة قدم، فالتعصب على أشكاله آفة كل العصور والأزمنة،حين تكون الهوية مصدرا للتمييز والعنصرية وأداة للقتل والإبادة الجماعية. التعصب للجنس واللون والعرق والدين واللغة، أضفنا له نوعا جديدا وهو التعصب لفريق الكرة. وفي الوقت الذي يلعب فيه المنتخب الوطني إحدى مبارياته الدولية تصبح كل هذه الأشكال من التعصب حاضرة دفعة واحدة في خلطة سحرية مضمونة المفعول، تبهر المتتبعين وتحير العقول… لم يعد هذا تنافسا رياضيا، لقد صار تنافسا وجوديا!
نحن ندرك أن المنافسة غريزة يصعب إزالتها من طباع الأفراد والشعوب ولكننانتطلعإلىزمانتكونفيهالمنافسةبينالدولمشهودةبشكلرئيسيعلىالسّاحةالرياضية،في حينيسودالتّفاعلاتالجاريةعلىالمسرحالعالميالتّعاونوتبادلالمنفعةوالدّعمالمتبادل. فأن تصبح كرة القدم مجالا للتنافس الرياضي المحض وأن تعكس مظاهر العمل الجماعي والتعامل النزيه والشهامة والسعي الجاد، هو رهين بمدى قدرتنا على محو التعصب ونشر العمليات التعليمية التي تهدف إلى إزالة الجهل وإطلاق القدرات الخلاقة. قد بدأنا هذا الموضوع بالحديث عن كرة القدم فإذا بنا نتطرق مرة أخرى للتربية والعمليات التعليمية وكأنها أم الحلول لكل مشاكل الإنسانية.
التربية هي بالفعل كذلك! … ولكن المقصود هنا ليس فقط تربية جسمانية تعنى بشؤون الجسد ومستلزمات النمو أو حتى تربية إنسانية تهدف إلى تحصيل العلوم والفنون وتطوير الفكر والمعرفة، المقصود هنا هو التربية الروحانية التي تسعى إلى تدريس الأخلاق والقيم للأطفال وإطلاق القوى الكامنة في الشباب الناشئ وحث الشباب على الشعور بالمسؤولية تجاه حيهم ومجتمعهم والعالم من حولهم.إنها التربية التي تبني أساس الحضارة الإنسانية وتؤسس للسلام و “الوحدة في الاختلاف” والتعاون بين الأفراد والشعوب في كل مناحي الحياة.
في الحي نحن نعرف بعضنا البعض أو نكاد، نلقي التحية أحيانا، وأحيانا نتبادل أطراف الحديث. ما نحن بحاجة إليه اليوم هو توطيد هذه العلاقة حتى يتسنى لنا أن نتعمق في الحديث، وتكون هذه الأحاديث هادفة حتى نتعلم معا كيف نجد الحلول المناسبة لمشكلاتنا، ويكون التعاون والمرافقة والدعم المتبادل من شيمنا. في بيئة مضيافة كهذه تستطيع العمليات التعليمية أن تشق طريقها بنجاح ويصبح التغيير عملية عضوية تؤتي أكلها كل حين ما دامت البذرة التي زرعناها تسقى بعناية فائقة ومحبة صادقة. حَيُّنا هو عالمنا الصغير، فهل يعقل أن نتحدث عن الاتحاد والسلام العالمي ونحن لا زلنا في أحيائنا نتجاهل بعضنا البعض تفاديا لكل مكروه! ناهيك عن التسامح والتعايش والعمل معا بما يخدم الصالح العام.
بالعودة إلى كرة القدم وما يصاحبها من شغب في الملاعب وخارجها وما يقوم به أحيانا بعض اللاعبين من سلوك شنيع يحض على العنف والكراهية، ربما نتساءل عن الحلول الآنية لأن الحل التربوي بالنسبة لنا نتائجه ستكون على المدى البعيد. أظن أنه ليست هناك حلول مختصرة! فالمقاربة الأمنية وإن كانت ضرورية ليست كافية، والمنع لن يوقف مشاعر العداء والتعصب لأنها ستبحث لها عن ساحة جديدة لتبرز فيها. الحل هو التربية! واستعجال نتائجها يصبح ممكنا إذا تضافرت الجهود وخلصت النية. كلنا مسؤولون عما يحدث، فهؤلاء أبناؤنا جميعا! فكيف لا يكون لكل واحد منا نصيب في إصلاح ما أفسده الجهل والتعصب وحملت أوزاره كرة القدم؟ …