بقلم: شيماء الامغاري “نهى بريس”
2016 ليست مجرد أرقام اعتباطية بل هي سنوات توالت في ولاداتها لقرون و عصور مختلفة… لكل عصر حضارة و لكل حضارة ملامحها التي حكى عنها تاريخ الحضارة الموالية لها، من خلال ما خلفته من أثارات و رسم معتق على الحجر و كأنها تأبى الزوال بلا اثر.
2016 عصر السرعة و التكنولوجيا و الطفرات في مختلف الميادين،عصر الانترنيت و العالم الذي أصبح قرية صغيرة نلج إليها بمجرد نقرة على محرك البحث ،لأجد نفسي على برج إيفل اشرب قهوة باريسية على أنغام أغنية <لافي اي غوز> لاديت بياف، وفي المساء أتأمل اندثار قرص الشمس في مغيبه المائل للحمرة على شعلة تمثال الحرية بالولايات المتحدة الأمريكية .
2016 سنة عرفت من الحروب و انقلاب الحكومات و الأعمال الإرهابية ما لا يعد و لا يحصى، و من الاختراعات و الابتكارات ما لا يقل عن الألف، لكن سنة 2016 الحافلة بالأحداث لم تلقي بغبارها على جارات عمارتنا المعتقات ،لازلن على نفس الطباع و التطبع، منذ قدومنا للعمارة سنة 2006 أي ما يقارب العشر سنوات، فعقلياتهن حصن منيع لن يفلح حصان طروادة على اقتحام أسواره و لم يؤثر فيهن عصر التكنولوجيا بشيء يذكر.
لا زلت ذاكرة ليوم أتينا بمتاعنا لنحط الرحيل بشقتنا بالعمارة، ففي كل خطوة كنت أخطوها بدءا من الطابق الأول وصولا إلى الطابق الأخير بالعمارة، المح عيون السيدات المتربصة كقطة تتبع موقع فريستها للانقضاض عليها ، من وراء ستائر النوافذ المطلة على الممرات و قد برزت مقلهن حتى خيل إلي بأنها ستلتصق بي، و قد نهش الفضول غريزتهن المتأصلة لمعرفة أخبار الوافدين الجدد لتجر معها سلسلة من التساؤلات تبدأ بمن :من هم من أين أتوا ماذا يشتغل الأب و هل الأم تشتغل أم ربة بيت أي باختصار من أين جاء الحلزون يحمل داره، مقطع من نشيد المحفوظات الذي كنا نردده في صغرنا أيام المدرسة الابتدائية و الوزرة البيضاء.
و بعد المراقبة البوليسية خلف الستائر، لا بد من استشفاف الخبر اليقين فيتجمعن في الدهاليز و يطلقن العنان للغيهن يتهامسن و يتحادثن، في محاولة لاكتشاف أسرار السكان الجدد ،كأننا طبق فضائي حط فجأة بالعمارة .
و بعد أن قمنا بنقل كل المتاع للبيت، ما هي إلا دقائق معدودة حتى دقت جارتنا قناة الجزيرة كما ألقبها لأنها لا تفوت كل كبيرة و صغيرة بالعمارة ،كانت ترحب بأمي و عيونها تدور كعقارب الساعة مسافرة في كل أركان البيت ركنا ركنا تقوم بمسح كلي لكل أرجائه، و تتفحص كل من أمامها ثم رسمت ابتسامة عريضة ،و اقترحت على أمي مساعدتها في عملية تنظيف الشقة التي اعتذرت بحجة تعبنا و حاجتنا للراحة، فخرجت خائبة الظن لأنها لم تتمكن من معرفة أصلنا و فصلنا كما نقول بعاميتنا المغربية.
ها قد حل علينا الصباح باعثا دفئه داخل الغرفة، فنهضنا متثاقلين لأننا لم نتعود بعد مسكننا الجديد، أرسلنا أخي الصغير لدكان البقال لجلب الحليب و الخبز، غير انه تأخر عن العودة فاستبد بي القلق عله أضاع طريق العودة فذهبت خلفه، لأجده و قد وقع في شرك جارتنا قناة الجزيرة، التي كانت تستجوبه كالشرطي الذي يحقق مع لص ذو سوابق عدلية، و أخي يجيبها بعفوية الأطفال عن أسئلتها التي كانت من قبيل( فين كنتو ساكنين اش كايدير باباك و ماماك شحال عندك من خوتك شكادير ختك ) فتكدر صفوي و حدجتها بنظرة ثاقبة لم تأبه لها و رمقتني بنظرة المنتصرة، فسحبت أخي وقد تجهم وجهي و عدنا للبيت.
كنا حينها حديث النسوة نشبه نظاما مشفرا يحاولن فك رموزه، كان سطح العمارة مقر عقد اجتماعاتهن المطولة في تبادل ما تجود به قريحتهن من أخبار و لا يخرس عندهن سر.. .(شتي بنت فلانة طلقات، و سميرة بدلات تلامط ديال الصالون،و ووووو…) مرت الأيام و السنوات، يتغير كل ما حولي إلا نساء عمارتنا .
حليمة كما نناديها بالعمارة امرأة في الأربعينيات، غير أن هيئتها توحي بأنها في الخمسينيات،فقد صرف الزمن فيها أفعاله القاسية، فأصبحت شاحبة الوجه مقعرة الوجنتين برزت أسنانها الأمامية، تترائي من عينيها الغائرتين نظرة يملؤها التعب، اختفى أديم وجهها تحت التجاعيد و الأخاديد،و هي امراة مطلقة تتحمل لوحدها مصاريف ابنتها الصغيرة، و لان مستواها الدراسي لا يسمح لها الحصول على عمل مريح لم تجد سوى العمل كمنظفة، فكانت تأتي ثلاث مرات في الأسبوع لتنظيف العمارة من الأوساخ و الازبال مقابل مبلغ زهيد لا يتعدى 600 درهم في الشهر، وكان زوج جارتنا <السرسارية >عفوا نجية لكن غالبا ما ألقبها بالسرسارية لأنها تضغط بشدة على جرس الباب، تصطنع التحضر و تلعب دائما دور السيدة التي تفقه في كل شيء، حتى أنها أرادت أن تدير شؤون العمارة، فكانت تقتحم الأبواب أحيانا دون استئذان لعرض برنامجها الذي يتضمن مجموعة من المقترحات لأجل تحسين وضع العمارة،غير أن افتقارها للباقة الحديث غالبا ما يدخلها في مشادات كلامية مع الجيران، فتمطرهم بوابل من الشتائم من قبيل (سري انا لي كنت نعجن الخبز و نعطيكم، فين ملاوية و الحلاوي لي كنت نوزع عليكم انكارين الخير) أما زوجها شاروخان كما تلقبه لم يوفر جهده لاجل طرد حليمة المسكينة ليأتي بأخته مكانها،فيتابع تحركاتها متربصا لأي هفوة يفتعل وراءها فضيحة لأجل طردها، أو يزعجها بكلام جارح لا تواجهه حليمة سوى بدموع حارقة، أما الفضيحة الكبرى فهي عندما تلتحم نساء عمارتنا في عراك حامي الوطيس عندما تنقل جارة كلاما جاء على لسان أخرى، فتفتعل معركة تشبه مصارعة الديكة و كانت مشعثة الشعر كما ألقبها صاحبة اكبر رقم قياسي في افتعال الصراعات بالعمارة و نقل القيل و القال .
مولات المجمر نسبة لروائح البخور الكريهة التي تنبعث من شقتها، تسيطر على عقلها الصغير خرافات جماجم الموتى،تتوهم دائما بان العين الشريرة تطاردها وبان السكان يحسدونها خاصة النسوة لبضاضة جسمها و نعومة بشرتها النضرة، تضع عقدا تتدلى منه كفا خماسية أو الخميسة لدرئ العين، تؤمن بان عملا سحريا هو السبب وراء عنوستها، و غالبا ما يشتكي الجيران من الروائح الكريهة التي تنبعث من بيتها.
2016 غيرت العالم لكنها لم تغير عقلية سيدات عمارتنا، لم تغير عاداتهن و معاملاتهن، ما زلن كما عهدتهن سنة 2006،ربات بيت عندما يفرغن من أعمال البيت يتسللن للسطح، ولان مستواهن الثقافي لا يؤهلهن الحديث عن السياسة و الأحزاب ، الأزمة الاقتصادية و البنك الدولي، تجدهن يتحدثن عن أسعار الخضر يتفاخرن بمشترياتهن ويتحدثن عن أحداث مسلسل سامحيني، لينتقل الحديث عن بعضهن البعض، يتخاصمن و يتصالحن هؤلاء هن نساء عمارتنا 2016 .