تربية و تعليم

قاعة الأساتذة

IMG_0014

كتب فرانسوا رابلي قائلا :” أريدك يا بني أن تتعلم اللغات و تتقنها فتدرس أولا اللغة اليونانية ثم اللاتينية ثم العبرية لفهم التراث ، و كذلك العربية و الكلدانية ، يجب أن تكتب باليونانية كتابة أفلاطون بها ،

و اللاتينية كما كتب شيشرون ، و لا تدع فرعا من فروع التاريخ إلا و درسته ….. كما عليك بدراسة الرياضيات و علم الفلك و الشريعة و الفلسفة …… و لا تنس الإحاطة بكتابات كبار الأطباء الإغريق و الرومان و العرب ” .

ما يهمنا من النص روح معناه و فلسفته التربوية و نزوعه الموسوعي تجاه الابن ـ التلميذ العالم مستقبلا  ، لكن ما يعنينا أكثر هو الأستاذ ما دام أنه ” الأداة ” في مضمون قولة رابلي .

كلما دلفت إلى قاعة الأساتذة إلا و ينتابني إحساس نهضوي الجدران مليء بالقيم و التصورات و الخيال الرمزي يشمله قانون التنوير و يحفه مقاس العقل و المعرفة طبعا خارج النماذج الجاهزة ، أي ممارسة الفعل في بعده النظري القح بعيدا عن اجتماعياته و حاجاته النفسية و البيولوجية ( كأس شاي و قهوة ، روح النكتة و الدعابة ، مناقشة اليومي و مثبطات العمل التربوي ) ، غير أن كل هذه الأماني تصبح مجرد شريط أحلام تتقاطع شرائطه مع كل هبة ريح تسفوه و تجعله هباء منثورا ، إذ إن الولوج إلى قبة قاعة الأساتذة أضحى سلوكا روتينيا يقتات على الوهم و البعد التقني .

ينزوي كل واحد إلى ركن خاص ليمارس التسبيح الالكتروني بلذة لا توازيها إلا لذة العيش بأريحية و في بحبوحة الرغد و الهناء ، استسلام و خشوع يفضي إلى صمت رهيب تتعالى معالمه بادية على القاعة ، الموقف أشبه بجنازة أبطالها أحياء سرعان ما ينوء صوت من شدة السكينة :

            ـ هل شاطرتني صورة تلك الفتاة ؟ (باللغة الخاصة بالشات ) .

            ـ لا لم أشاطرك ، أنا لدي الكثير إنها صورة نهد و خصر و أرداف تنسينا القسم

            ـ هيا أرسلها .

            ـ في الحين .

يهمس آخر : لقد أرسلت لي صديقة صورة لها و هي فاتنة .

ـ آه كم النساء ” باغيات ” يظهرن خلاف ما يبطنن .

تتحول القاعة إلى عكاظ الكتروني تباح فيه الخصوصيات و تستمرأ فيه الإشاعة بدعوى مشاطرة المشاهد و تحقيق نسب المشاهدة العالية إمعانا في توسيع دائرة ” الشوهة ” .

و في لحظات الخواء و انصراف البعض تتحول أشباه المناقشة إلى عرض للأزياء و العطور و العضلات المفتولة و الأدهى أنقى ” خروج الريح ” (معذرة للقارئ).

تغدو القاعة في غالبية اللحظات مستنقعا تتعايش فيه شتى أنواع الهامشية و الهجانة ، وتسمو قيم التباهي و استعراض مشاريع القوة و تصبح لحظة مناقشة كتاب أو فكرة أشبه برهز ( لذة قوية ) محرم يختلس المتعة من وراء الجدران .

لقد تحولت المعرفة و القيم الثقافية في ” صالون ” الأساتذة إلى قيم للتشفي و الازدراء و التنقيص و الموت البطيء ، و أضحت الرغبة في السلم و الرتبة و لو بالغش ديانة تربوية كافر و رجعي من يعوقها و يرفض نعمتها، بل و أحيانا التباهي بأساليب الغش المتطورة للحصول عليها :

ـ أضع جميع الكتب على الطاولة و أفتش عن الأجوبة الصحيحة ، و إذا استعصى الأمر اتصل بصديق يتزامن حضوره أمام (الحاسوب ) مع فترة الامتحان ، و تحل بركات الشيخ ” غوغل ” الذي لا تخفى عليه خافية .

لا يوصف التعامل بالتكنولوجيا الحديثة عيبا في حد ذاته ، إذ المشكل في طبيعة الوعي باستعماله حيث تنتفي بموجب السلوكات المرصودة أعلاه علامات التواصل في بعده الفلسفي أي التفاعل الحميمي و اللغات المرافقة له من الإيماءة و الحركة و الاستدارة و الإشارات الأخرى الرمزية ، و ينتقل الأمر من غياب المعنى إلى سيادة سلطة و خطاب العنف بمختلف تجلياته و مظاهره ، و الاتجاه قسرا إلى الأنماط المرفوضة معرفيا و ثقافيا في التواصل و هي الحدية و تسويق الذوات بعيدا عن حقيقتها بشكل ينتج التحايل و تنويع الشخصيات و الأدهى القدرة على مسايرة هذا المسار بدعوى تزجية الوقت و الانفتاح على روح العصر التي وصلت عند البعض إلى تفضيل البارصا و الريال على الأمور التربوية و هموم الوطن حسب ما تعكسه الأنشطة الموازية التي لا يجب أن تتزامن و تتواقت مع مواعيد المباريات ، و أخوف ما نخاف عليه أن يتحول هذا الوباء الكروي إلى مقرر دراسي باقتراح من السادة الأساتذة .

قد تكون لهذا النقد و التصويب و الرغبة في أن تكون الأمور محددة على قالب مصاغ سلفا نوع من التجني و إغفال منطق العصر و لحظة الانتقال في الوعي و السلوك المرافق لبنية التحولات الاجتماعية (القيم ) و التقنية (سرعة تداول المعلومة ) قد يكون مبرر ما لهذه السلوكات و المسلكيات ، غير أن الطبيعة و الفلسفة المرافقة لهذا التحول تفتقر بشكل حاد و مرضي للمقوم المعرفي و الثقافي المصاحب لها ، إذ إن الخطاب و اللغة و بنية و نمط التفكير ترفل في مستنقع الغضاضة و التنطع يصعب فيها فهم ميكانيزماتها و آلياتها ، حيث إن سرعة المعطى التقني ( الهاتف و الكمبيوتر و الفضائيات و ما يرافقها ) أدى بطريقة آلية إلى تسريع آلية الفهم و التأويل و تسريع حتى الخطاب نفسه ، تعكس ذلك العديد من المظاهر الدالة على عنف اللباس و المغالاة في تسويق الذات ، و بقدر ما تتسارع هذه الخطى يتسارع معها ابتداع الأساليب و الآليات المنافية تماما للأعراف و التقاليد القيمية ( العمل الجاد ، ثقافة المسؤولية ، التربية و إعادة التربية ، القراءة و إعادة القراءة و تنويع مصادر الحصول عليها ) الأغرب أن وباء السرعة طال حتى ماسماه الأستاذ الجابري ( رحمة الله عليه ) بالعقل المستقيل ، بمعنى أن وحدة دراسية يمكن أن تتحول إلى نمط موحد بين العديد من الأساتذة من خلال تداولها و تعميم ” فائدتها ” دون القيام بالمجهود الشخصي الذي يضفي عليها تجديدا و تنويعا ولم لا اختلافا لما فيه من قدرة على الخلق و الإبداع و التجاوز .

إن الصور المألوفة من قاعة الأساتذة و هي كثيرة ، تدفعنا إلى مناقشة طبيعة الإطار التربوي الذي نرومه مستقبلا ، فإذا كانت الأداة مهترئة معرفيا و ضحلة ثقافيا فلن تصلح إلا من أجل الإفساد ( إنتاج قيم كمية لا نوع فيها ) ، و من ثم فالدعوة موجهة بالأساس إلى الذات التربوية المطالبة بتحسين مردودها المعرفي و تنويعه بعيدا عن قيم التخصص الذي يقتل يوميا الإمكانات الخاصة بالتطوير وفق روح ما ساقه رابلي سابقا ، لأننا كلنا تلاميذ في الميدان المعرفي ، و ليست الوظيفة بالمعنى الاجتماعي تقديم الاستقالة و العطاء المعرفي ، إذ هي في المقام الأول و الأخير مهمة المهمات تربية و تكوين المستقبل و الحاضر .

           الأستاذ رشيد اليملولي
زر الذهاب إلى الأعلى
مستجدات
إسدال الستار على دوري رمضان للمركبات السوسيو رياضية للقرب بإقليم الخميسات أكادير : إفطار جماعي لفائدة ممثلي الديانات الاسلامية واليهودية والكاتوليكية من طرف مؤسسة سوس ماسة لل... سلا : نظمت الجمعية الرياضية السلاوية للأشخاص المكفوفين وضعاف البصر بشراكة مع المبادرة حفلا بمناسبة ا... الدار البيضاء: فتح بحث قضائي في واقعة تعنيف سيدة لإبنتها ذات ال 7 سنوات في الشارع العام سلا : أسدل ستار فعاليات إختتام المهرجان الوطني التراثي من تنظيم جمعية 2 مارس بمدينة سلا الرباط: عائلات بلا ماء ولا كهرباء. مسؤول منتخب يسأل سؤال كتابي حول مصير طلبات إدخال عدادات الماء وال... دشنت وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة مركز اطفال التوحد بإبن جرير تهنئة بمناسبة عيد ميلاد الدكتور جمال أحمد حسين سفير السلام تهنئة بمناسبة عيد ميلاد الفاعلة الجمعوية وسفيرة السلام الملقب ببناة المساجد الأستاذة "لبنى عموري" أخيراً هذه أسباب تأخر افتتاح المركب الثقافي الأطلس بالخميسات