صحة

“عندك سرطان”

thumb.php 

بقلم: ذ. محمد منصوري   //

الموت! … هذا الجزء الغامض من حياتنا، هذه اللحظة الغريبة في وجودنا والتي نعيش حياة كاملة غافلين عنها متناسين حصولها، تتحول في أقل من ثانية إلى حياة موازية بمجرد سماعنا لهذه الكلمات الغليظة: “عندك سرطان”…

نعتقد قبل هذه اللحظة اننا نفهم جيدا ما يعنيه الموت وما يمكن حدوثه بعد مفارقتنا لهذا العالم الذي ندركه. فكلٌّ حسب ما يعتقده ويؤمن به، يحاول جاهدا تفسير الأمور ويبدأ مباشرة بإعطاء تصوره لما يمكن حدوثه بعد الموت لأنه لا يمكننا العيش بفكرة:”لا حياة بعد الموت”. لكن حينما ندرك بشكل ملموس وشبه مؤكد أن هذه اللحظة قد تكون وشيكة يصبح الأمر مختلفا تماما، وكأنما كل ما آمنا به من قبل وسلمنا بحدوثه لم يكن بذلك القدر من الإيقان أو اننا لم نفكر فيه بجدية. ففي كل مرة تحدثنا فيها عن الموت كان إما جدالا فلسفيا عابراأوحديثااجتماعيا بخلفية دينية ولم يكن حقابالحديث الموضوعيوالمصيري الذي يمسنا جميعا في العمق. هل لأننا كنا ننسى غالبا بأننا معنيين فعلا بهذا الموضوع أو على الأقل نعتقد أن الأمر لا يمكن حدوثه في المستقبل القريب؟ على كل حالفبمجرد أن نوقن أننا نحمل بداخلنا قنبلة موقوتة قد بدأ عدها التنازلي فعلا ولا يمكننا إيقافها مهما فعلنا، حينئذ فقط تتغير كل الضوابط والمعايير التي شكلت فيما مضى فهمنا للحياة والموت، ويصبح الموت أكثر من مجرد لحظة نسمع عنها ولسبب ما لا نتوقع حدوثها…يصبح الموت فجأة حياة موازية نعيش تفاصيلها أكثر من الحياة نفسها.

هذا ما تعلمته في مهنتي مع مرض السرطان…

في كل مرة كنت أواجه فيها مريضا بحقيقة إصابته بمرض السرطان، كان ينتابني شعور غريب. كنت أتساءل دوما: ما الذي يحس به هذا الشخص الجالس أمامي في هذه اللحظة؟ مهما قلت له وشرحت له عن مرضه وكيفية العلاج منه، وهو يومئ برأسه في إشارة إلى أنه يفهم عليَّ كل ما أقوله، كنت متأكدا أنه قد توقف عن التفكير تماما لأن ثمة فكرة واحدة فقط تشغل باله وتسيطر على كل حواسه: كم بقي له ليعيشه؟

الغريب في الأمر هو أنه مع مرض السرطان لا يمكنك أن تعرف بالضبط متى ستموت، تماما كما في الحياة العادية، ولكنك متأكد بأنك ستموت، تماما كما في الحياة العادية. فماذا استجد إذن؟هل فهمت لتوك نظرية النسبية لآينشتاين؟ هل أيقنت فجأة أنك قبل هذه اللحظة لم تكن متأكدا فعلا بأنك ستموت؟ …لا أعرف الجواب بالضبط! ما أعرفه هو أننا بحاجة لأن نراجع مفاهيمنا عن الحياةوالموت، وطبعا ما يمكن أن تكون عليه الحياة بعد الموت، إذا أردنا أن نفهم ما الذي تعنيه فعلا”الحياة الحقيقية”. فالحياة التي نعيشها لا بد أن يكون لها معنى يتعدى ما نراه في الظاهر. فلم نوجد فقط لنأكل وننام ونتزوج ونلد، وليس فقط لنفرح ونتألم ونحزن ونسعد. الحياة التي نعيشها، وإن بدت واضحة وعادية في مجملها، فهي غامضة جدا حين نقترب من حدودها. فكيف جئنا إلى هذا العالم وكيف نغادره سيبقى من الأسرار التي تستعصي على عقلنا البشري مهما حاولنا. غير أنهذا العجز وهذا القصور هو الشيء الوحيد الذي يحد من نرجسيتنا ويساعدنا على الإيمان بالغيب والعمل في هذا العالم بما يضمن لنا الاستمرار في العوالم الأخرى حتى وإن لم نكن متيقنين من حدوث ذلك. فكلمة “ربما” لها كبير الأثر في تصرفاتنا ومعتقداتنا.

ثم ما هذه الروح التي لم نجد لها أثر بعد؟لقد فحصنا جسم الإنسان فحصا بأحدث التقنيات وحللنا حمضه النووي إلى آخر الجينات!ما الذي يعطينا الانطباع بأنها توجد بداخلنا؟ هل الأمر شبيه بانعكاس الصورة على المرآة حتى نكاد نجزم أنها بداخلها؟ وما الذي يشعرنا باستمرار بوجود شيء ما يراقبنا في كل صغيرة وكبيرة نقوم بها أو حتى نفكر في القيام بها؟حتى أنه يوجد بيننا من يتكلم مع هذا الشيء الغامض وكأنما يتحدث مع نفسه. هل كنا لنفكر في كل هذه الأشياء لو لم يكن الموت جزءا من وجودنا، وكنا مقتنعين أو نكاد أن خلف باب الموت هذه ثمة عالم آخر وجودنا فيه مرتبط ارتباطا وثيقا بما نفعله في هذه الحياة الدنيا؟ مثل الجنين في عالم الرحم، كل ما يحصل عليه هو ضروري للحياة التي أصبح مقبلا عليها وكل نقص أو اختلال سيرافقه عجز ومعاناة بعد ولادته أي بعد انتقاله إلى هذا العالم. فلولا الموت الذي يذكرنا بأننا سنغادر هذا العالم مهما طال بنا الأمد لما أحسسنا بالحاجة الملحة إلى الإيمان. ولولا الإيمان لما سعى الإنسان إلى الكمال والتخلق بأحسن الصفات. فهو يظن أنه بذلك سيضمن له حياة كريمة في الآخرة أو ربما حياة مفعمةبالرفاهية والنعيم لم يكن ليدركها في حياته هذه. وأقلها هو أنه سيتفادى كل أنواع العذاب التي يمكن أن تحل به كلٌّ حسب ما تفرزه له مخيلته وتصفه له معتقداته. هذا النظام القائم على المكافأة والعقاب هو ما يضمن التوازن في العالم المادي والروحاني على حد سواء.

من البديهي أننا لا نعيش حياتنا ونحن نفكر في الموت كل لحظة وهذا ما يجعلنا نقوم بكل هذه الحماقات وننساق وراء كل النزوات دون أن يرف لنا جفن. ولكن دائما ما تكون هناك لحظة نتذكر فيها هذا المآل المحتوم فنسارع إلى تصحيح المسار واستدراك ما يمكن استدراكه.أظن أن المريض بالسرطان يعيش هذه اللحظة دون توقف وهذا ما يفسر كل التحولات النفسية والسلوكية التي تطرأ عليه، وقد يصل الأمر لحد الشعور بالاكتئاب ورفض المواصلة والاستمرار. وهنا تبرز الحاجة إلى شعور جديد ينعش رغبتنا في الحياة ويعطينا الدافع لمواصلة المشوار، إنه الشعور بالأمل. فالأمل نافذتنا على الحياة التي نتمنى دوما أن نعيشها والتي نلجأ إليها كلما أكثرنا من الإحساس بالمسؤولية. الأمل ليس كذبة اخترعناها وصدقناها، إنه طوقنا للنجاة كلما اشتدت بنا الأزمات وملاذنا كلما صعب علينا مسايرة الواقع. هذه هي الحياة التي نعيشها، نستأنس بوجودنا فيها حتى نعتقد أننا خالدونوسرعان ما نتذكر أننا يوما ما سنموت ولربما قد يحدث ذلك اليوم.ثم يمر يومنا دون شيء يذكر فنعود من جديد من حيث بدأنا. لكن تصوروا معي أن يحدث هذا معنا كل يوم.

قد يعيش المريض بالسرطان لشهور قليلة أو لسنوات طويلة، كل حسب حالته وسرعة تشخيصه ومدى تجاوبه مع العلاج. ومهما كانت المدة التي سيعيشها قصيرة أم طويلة فإن نظرته للحياة لن تكون أبدا كما كانت من قبل…

زر الذهاب إلى الأعلى
مستجدات