ذ رضوان المسكيني/نهى بريس/
روى لي صديقي بعد عودته من دكار عاصمة جمهورية السينغال، عن زيارة قام بها لجزيرة غوري ، التي يطلق عليها جزيرة العبيد، مقابل المدينة الحديثة الكبيرة، وعن فظاعة ووحشية المعاملة التي كان يلقاها الإنسان من طرف أخيه الإنسان، إذا صحت تسميته كذلك، عندما ينحدر إلى مستوى لا يقارن حتى بالحيوان الذي لا يبيع ولا يشتري ولا يقيد ولا يعذب ولا يلقي بأخيه الحيوان لتمزقه أسنان سمك القرش. كما كان يروي الدليل السياحي وهو يشرح كيف كان يعامل الشباب والشابات الإفريقيات قبل ترحيلهم إلى القارة الأمريكية. وعندما سئل من كان يبيع هؤلاء الشباب إلى التجار الأوروبيين، كان الجواب: الأفارقة أنفسهم.
كان صديقي يروي وفكري يبحر في تاريخ البشرية ويتساءل، ما الأسباب التي دعت إلى ممارسة مثل هذاالنوع من التعامل بين أبناء الإنسان، الذين هم نسل أم واحدة وِأب واحد، كما تقول بعض الأديان في العالم، خاصة التي ظهرت في الشرق الأوسط؟
يبدو أن تطور الإنسان البدائي هو الذي اضطرته حاجة تطوره إلى الاستعانة بغيره لقضاء مصالحه الخاصة ثم إلى إجباره على ذلك. ومن الطبيعي أنه كلما زاد التوسع المادي، المسمى بالحضاري أيضا، كلما ازداد التنافس بين الأقوياء وازدادت الحاجة إلى اليد العاملة وما ينوب عنها من الآلات الميكانيكية في عصرنا أو إلى استعباد المزيد من البشر في العصور الغابرة. ولا يرى الباحث في التاريخ منذ أن تعلم الإنسان تسجيل أفعاله في الصخور والكهوف ثم أفكاره في الطين والجلود والعظام والورق، إلا فئتين متميزتين: الأحرار والعبيد. وضع لهما الإنسان مع زيادة تطوره قوانين تضبط العلاقة بينهما، ترسخت في الأفكار والوجدان وأصبحت ثقافة سائدة في مجتمعات المعمور، وقاعدة ثابته مسلمة لا يمكن لأي كان أن يلغيها أو يستبدلها بقوانين، تجعل العبد يشبه الحر والإنسان المستعبد مساويا لأخيه الإنسان، مع العلم أن من العبيد من لا تلدهم أمهاتهم أحرارا في نظر المجتمعات التي تهيمن فيها ثقافة العبودية، وبالتالي فإن الأمهات اللائي في الرق لا يلدن إلا عبيدا. فالأسرة كلها ملك للسيد الحر المالك لها، يتصرف فيها وفق إرادته وما تمليه عليه مصالحه. والويل للآبقين والآبقات.
صارت العبودية والنخاسة من المسلمات والثوابت التي لا تقبل التغيير والتبديل و’ طابو ‘ لا يناقش. وحتى المرسلون الذين أرسلهم الله رحمة للعالمين، لم يتمكنوا من انتزاعه من ضمائر المؤمنين أو إلغائه من المجتمعات التي بنتها تعاليمهم، ولعل رسالة الإسلام التي كونت الدولة الإسلامية وشرعت قوانين مجتمعها في حياة صاحب الرسالة العظيمة نفسه ومكانته الكبرى في وسط المؤمنين به، لم يقدم على تحريم سوق النخاسة الذي أصبح سوقا زاهرة في مختلف العواصم الإسلامية في عهودها الحضارية الزاهرة. وكل ما حاول القيام به هو التخفيف من سوء معاملة العبيد والتشجيع على تحريرهم.
وفي تاريخ مغربنا مثال يبين مدى ما جنته الحملة العسكرية السعدية المظفرة على السودان من مواد نفيسة مثل الذهب والعبيد، لدرجة أصبح صاحب الحملة الجريئة في تاريخ وطننا يعرف بأحمد المنصور الذهبي، وتعاقبت الأيام وتطورت الأحوال واقتضت إرادة السلطان العلوي تكوين جيش منظم خاص به وأوجد نظاما متميزا للشابات والشبان السود في المغرب صار معروفا في برامج تعليمنا بـ ‘ جيش البخاري ‘. كما تعلمنا مدارسنا ما جنته الدول الأوروبية من التجارة الثلاثية من الثروات الهائلة، كان بؤس وشقاء الإنسان الأفريقي جنوب الصحراء، يشكل فيها المادة الأولية التي تغذيها وتضمن لها البقاء والازدهار.
ألم تلوّح ألمانيا بالتعصب لعرقها في اوروبا عندما تولى الحزب النازي الحكم فيها يدغدغ شعبها بعرقه الآري المتفوق والأنسب والأفضل والأهل بالحكم على بقية الأعراق ولو بالقوة إن اقتضى الحال؟. فجنى المنتمون المتحمسون لسياسة الحزب الخرقاء على أنفسهم وجنت منه جميع الأعراق شرا وبالا ودمارا وخرابا عم العالم كله. و لم تتخلص الولايات المتحدة الأمريكية من هذا التعصب في القارة الأمريكية، كما لم تتخلص منه جنوب إفريقيا قانونيا إلا في القرن الماضي، ووضعت بعض الدول الأوروبية قانونا زجريا لكل من يجهر به أو يتصرف على أساسه. ومع ذلك ما زالت آثار جذوره الضاربة في الوجدان تنبض بالحياة في لاشعور بعض البشر.
كنت أتساءل وأنا أنظر إلى الراوي: هل تصرف الإنسان عبر التاريخ كان خاطئا؟ أم أن الإنسان في تلك المرحلة من تطوره كان مجبرا على ذلك السلوك؟. إذ كان عليه أن يتطور وينمو نموا عضويا مثل سائر الكائنات من نبات وحيوان، وينتقل من مرحلة إلى ِأخرى إلى أن يبلغ أشده ويصل إلى مرحلة نضجه حيث تزهر أفكاره وتبرعم مواهبه وتنضج إنسانيته؟ ويتأمل في ثوابته التي تحكمت في عقول أبناء البشر وتركزت في المجتمعات على مر الزمن، وصارت من المسلمات التي يتعصب لها ويتفانى في إبقائها وإخضاع غيره لها، مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات الدموية والأرواح التي تزهق في سبيلها، إلى أن شكلت ما يصطلح عليه بالتعصب العرقي، كي يتخلى عن بعضها.
على أن باقي التعصبات سواء كانت نابعة من حب الوطن ِأو الدين أوالمذهب أو النظام الحاكم أو الحزب السياسي أو الجنسي، ذكرا كان أو أنثى، أو الأسرة أِو فريق الكرة، كلها تشكل حزمة من التعصبات، ينبغي لإنسان القرن الواحد العشرين أن يحذر من الوقوع في فخ التطرف بالتشبث بحبلها الخشن دون وعي وإدراك، لدرجة قد تولد في شعوره كراهية الآخر واستصغاره واحتقاره، يندفع، إذا واتته القدرة والفرصة على فرضها على غيره من الأفراد والشعوب الأخرى.
إن الله خالق الإنسان قد زرع في قلبه بذرة من الحب تجد فيها الأسرة والعشيرة والوطن والبشرية كلها مكانا لها، وكلما أغدق منه زادت بذرته انتعاشا ونموا. ولعل عناية الله الساهرة على مصلحة البشر قد أحدثت أمرا في هذا الشأن وأوحت روحه النافذة لبعض الدول القوية، من القرن التاسع عشر،مثل الامبراطورية البريطانية أن تصدر قوانين تمنع التجارة الثلاثية، لتشرع الدول في إلغاء الاتجار في البشر إلى أن وصلت إلى تحريمه نهائيا في جميع المجتمعات، وتعمل على التعاون في ما بينها لتوقيع الوثائق الملزمة باحترام حقوق الإنسان الأساسية والعمل على مقاومة العصابات التي تتاجر في ما يطلق عليه اليوم الرقيق الأبيض.
بينما صديقي يروي بتأثر وحسرة، ويتأسف على معاملة الإنسان لأخيه الإنسان، كانت تتداعى في فكري وأنا أصغي إليه، بعض الأحداث التاريخية العالقة في ذاكرتي. وما أن انتهى من روايته، حتى ألح علي إلحاحا أن أزور جزيرة ‘ كوري’ جزيرة العبيد، لأشاهد بأم عيني ذلك الباب المفتوح على المحيط الأطلسي الذي ينتهي عنده أمل حياة الأفارقة الذين يخرجون منه أحياء متجهين إلى شاطئ نفس المحيط المقابل من الجهة الأخرى، المعروف قديما ببحر الظلمات.