“عندك سرطان”… بداية الحكاية

[[ نهى بريس ]]2 أبريل 2016
“عندك سرطان”… بداية الحكاية

mansouri

بقلم: د. محمد منصوري “نهى بريس”

… تمر لحظات من الصمت والتأمل هي بالنسبة للمريض بالسرطان عمر بكامله. لقد تلقى خبرا لم يكن أبدا في الحسبان وتملكه شعور غريب هو مزيج من القلق والخوف والغضب والحيرة والتيهان. هي لحظاتيعيد فيها المرء كل حساباته الوجودية. في هذا الوقت يكون محيطه منشغلا بتساؤلات أخرى لا تهمه هو في شيء،أو على الأقل في الوقت الراهن !!

فجأة، قد شعر الجميعمن حوله بأنهم كلهم معنيون، وأن المرض بات قريبا جدا منهم والإصابة به هي مجرد حظ عاثر أو لربما هي مسألة وقت. في الغالب يلجؤون إلى الإنترنت ويسألون العالم الجليل “غوغل” عن كل الأمور المتعلقة بتكون المرض ومسبباته وكيفية تشخيصه. ومنهم من يعمق البحث أكثر في طرق الوقاية منه خصوصا في مجال التغذية، وهذا مجال قد أبدع فيه المحللون و “علماء” التغذية و “حكماء” الطب البديل ولا زالوا يفعلون. أما من له ميولات سياسية فيأخذه بحثه إلى نظرية المؤامرة، وما تقوم به شركات الأدوية العالميةالتي تستغل هذا المرضلتبيع منتجاتها التي تدر عليها أرباحا خرافية، في حين أنها تخفي العلاج الحقيقي الذي سيقضي عليه نهائيا.هذه هي طبيعة الإنسان على أي حال، دائما يبحث له عن جواب لكل سؤال، فإذا لم يجده في عالم الحقيقة يبحث عنه في عالم الخيال…

في بعض الأحيان كانت هذه الأسئلة تُطرح عليَّ مباشرة من طرف أحد أفراد العائلة وكأنه يتحدث باسم المريض الذي توقف لتَوِّه عن الكلام. بالنسبة لي، عائلة المريض لا تقل أهمية عن المريض نفسه فهي التي سترافقه في هذا المشوار الطويل والشاق وعليها ستقع مسؤولية الدعم والمساندة وشحذ الهمة وتقوية العزيمة وبث الأمل. لذلك فكل تساؤلاتها يجب أن تلقى جوابا شافيا.وكم هو صعب تبسيط الأمور وشرحها في مثل هذه الحالات… نحن لم ندرس فن الخطاب لا في كلية الطب ولا في المستشفيات.

في بداية مسيرتي المهنية كانت أجوبتي علمية مجردة، لكني مع الوقت تعلمت أنهفي مثل هذه المواقف نحن في حاجة إلى مخاطبة الوجدان أكثر من حاجتنا إلى مخاطبة العقل…

ولكي نستطيع أن نفهم ما هو السرطان علينا أن نغوص في أعماق الجسم إلى أصغر وحداته. هذا الجزء المجهري الذي نسميه بالخَلِيَّة [Cell] هو في الحقيقة عالم قائم بذاته له نظامه وأسراره التي لم يكشف عنها بعد.فجسم الإنسان هو في الأصل خلية واحدة تكاثرت مرات ومرات وأنتجت شعوبا وأجناسا من الخلايا، لكل فئة خصائصها ومميزاتها وإن كان أصلها واحد. ثم سرعان ما شكلت كل فئة عضوا من الأعضاء أو نسيجا من الأنسجة. داخل هذا العالم الجسماني الفريد، والمتميز بتنوعه وتكامله، كل المكونات هي خلايا تحمل نفس الذاكرة: مجموعة من الجِينَات[Genes] توفر كل واحدة منها الشفرة اللازمة لصناعة هذا الخلق البديع. من خلال دراستي لعلم السرطان وعلم الجينات، أدركت بالفعل ما الذي تعنيه المقولة بأننا في هذا العالم نشبه تماما جسم الإنسان. فكلنا من أصل واحد، كالخلية الأم، انقسمنا إلى شعوب وأجناس مختلفة وكونا دولا متجاورة تشبه الأعضاء والأنسجة. فلكل دولة، عضو في هذا العالم، دور أساسي مهما قلت أهميتها أو صغر حجمها لأنه بدونها لا يستقيم جسم العالم. والجميل هو أننا أيضا نملك نفس الذاكرة: إنها الحضارة الإنسانية.

في كل مرة تتكاثر فيها الخلايا وتنقسم، يتم صناعة نسخة طبق الأصل من الشريط الذي يحمل هذه الجينات والذي نسميه ب “الحِمْض النَّوَوِي” [DNA]. وفي لحظة فارقة لا زلنا نجهل تفاصيلها، تصاب بعض الجينات بتحول في التركيبة[Genotype]، بسبب نوع معقد من التفاعلات الكيميائية أو الإشعاعية أو كذلك بسبب بعض الأنواع من الفيروسات. المهم هو أن هذا التحول ينتج عنه إما خلل وإما تغير في الوظيفة[Phenotype].هذا ما نطلق عليه اسم “الطَّفْرَة” [Mutation]، وهي عملية ليس باستطاعتنا أن نمنع حدوثها لأننا بذلك نكون قد تدخلنا في قانون الطبيعة.

يا للمفارقة !! الطَّفْرَة الجِينيَّة التي كان لها دور أساسي في تطور الإنسان والتي أعطت للإنسانية تنوعها وجمالها، هي نفسها التي ستكون سببا في ظهور مرض السرطان ونشأته. وكأن السرطان هو الثمن الذي تؤديه البشرية من أجل تطورها وارتقائها.

لقد أدركنا أن الوقاية من كل مسببات الطَّفْرَة، كيماوية كانت أو إشعاعية أو فيروسية، لا يمكن أن تكون قطعية وجذرية لأننا لا يمكننا أن نعيش في معزل عن العالم المحيط بنا ولا يمكننا ألا نتفاعل مع مكوناته. فالتعرض لأشعة الشمس، مثلا، ضروري لنمو العظام وصلابتها وهو في نفس الوقت قد يكون السبب في ظهور بعض الأنواع من سرطان الجلد. ومهما حاولنا أن نجد منزلة بين المنزلتين سيبقى دائما بيننا من لديه مشاكل في عظامه ومن ستظهر عليه علامات الإصابة بسرطان الجلد.فنحن نختلف عن بعضنا البعض في نسبة احتياجنا لأشعة الشمس ومدى قدرتنا على تحمل أضرارها الجانبية.

المشكلة هو أنه في عالمنا المعاصر، قد دفعنا طمعنا وجشعنا وانجرافنا نحو المادية البحتة وإدماننا المتزايد على الاستهلاك والتكنولوجياإلى التصنيع المفرط والعشوائيوالسعي المحموم إلى زيادة الإنتاجدون أن نولي أي اهتمامللأضرار البليغة التي تسببها انبعاثات المصانع والسيارات لغلافنا الجوي.وهذا ما أدى في النهاية إلى اختلال التوازن في الطبيعة وارتفاع نسبة الإصابة بسرطان الجلد وبأنواعه الفتاكة التي غالبا ما يستعصي علينا علاجها.

التدخين أيضا واحدة من آفات العصر الجديد وسلوك لم تعهده البشرية من قبل،وهو السبب الرئيس في عدة أنواع من السرطان وخصوصا سرطان الرئة. من يبحث عن الدليل لا يحتاج أن يغوص في كتب التاريخ البالية ولا في كتب الطب الثقيلة، ليتأمل فقط كيف ارتفعت نسبة الإصابة بسرطان الرئة عند النساء في السنوات الأخيرة بسبب التدخين الذي صاحب موجة التحرر والمساواة … حتى أنها في بعض البلدان أخذت حقها من المساواة في التدخين قبل أن تأخذه في التعليم والشغل والزواج والإرث.

الأمثلة كثيرة وكلها دليل على أننا نستطيع أن نقلل كثيرا من نسبة الإصابة بمرض السرطانإذا حافظنا على بيئتنا وتوازن العالم من حولنا،وغيرنا من سلوكياتنا المضرة بصحتنا وصحة غيرنا. لكن ذلك لا يعني في المقابل أننا نستطيع أن نمنع حدوث الطَّفْرَة الجِينيَّة.

من بينآلاف الجينات التي نتوفر عليها، هناك جينات من نوع خاص مسؤولة عن عمل الخلية وتكاثرها. إنها جينات “النظام” التي، لولا السرطان، ما كنا لنكتشفها ونعرف وظيفتها وكيفية اشتغالها. وإذا صادف وأصابت الطَّفْرَة التي نتحدث عنها إحدى هذه الجينات، تكون النتيجة مختلفة تماما. في هذه اللحظة بالذات نكون قد بدأنا حكايتنا مع السرطان …

error: Content is protected !!
مستجدات