صحة

“عندك سرطان”… عندما يصبح العلاج جزءاً من المعاناة

knjkkfg63263f

بقلم: د. محمد منصوري /نهى بريس/

بعيدا عن الأقرباء وتساؤلاتهم والمعارف وفضولهم، يستعد المريض بالسرطان لمواجهة مرحلة شاقة ومصيرية: إنها مرحلة العلاج وما يليها. وألتمس العذر هنا من كل الرجال الذين واجهوا هذا المرض بكل صبر وجلد، فما تعانيه النساء يفوق كل وصف …

لقد كان لي الشرف أن أتعلم دروسا في الحياة من سيدات رسمن بصفاتهن لوحات في الرقة والحنان، وضربن المثل في الإرادة والإيمان. لم يكن صراعهن مع المرض فقط، لقد كان أيضا صراعا مع العلاج وما يصاحبه من معاناة وماينتج عنه من أضرار نفسية واجتماعية وأسرية. نحن ما يهمنا ويشغل بالنا هو العلاج في حد ذاته واستمرار المريض في الحياة، لكن ما ستؤول إليه حياته بعد أن يشفى من المرض فهذا موضوع غالبا ما نهمله،ونترك المريض وحيدا في مواجهة حياته الجديدة.

ماذا عسانا نفعل؟ فهذا ليس بمجال تخصصنا وهذه هي إمكانياتنا !!فعلاقطعنا أشواطا كبيرة في علاج السرطان وأصبح المرض القاتل يشفى في كثير من الأحيان، لكن البعد النفسي والاجتماعي لا يزال ثانويا جدا ولا يحظى بعد بالاهتمام الكافي. وما يزيد الطين بلة، وجود ثقافة تقليدية لا تفرق بين المرض النفسي والجنون وتنعت الطبيب النفسي بطبيب الحمقى الذي يصير مع الوقت واحدا منهم.

بالنسبة لي، لم أجد نفسي في مواجهة مواقف كهذه بمحض الصدفة. فقد توفيت قريبة لي كنت أكن لها معزة خاصة في قلبي وذلك بعد معاناة مع هذا المرض، وكانت لا تزال في مقتبل العمر. تزامن هذا كله مع آخر سنةلي في كلية الطب فكان له بالغ الأثر على اختياراتي المستقبلية. بعد أن سلكت هذا المشوار، غير مدرك لجسامة التحديات التي تنتظرني، اخترت أن أتخصص في نوع معين من أمراض السرطان وهو سرطان الثدي. ربما لأنه يشكل أكثر من ثلث أمراض السرطان، أو ربما لأنه لوحده علم قائم بذاته يتطلب التفرغ والبحث والتكوين المستمر. المهم هو أنني في النهاية صرت مسؤولا عن مساعدة سيدات ينحني أمامهن كل إنسان.

خلال مسيرتي المهنية المتواضعة جدا، أشرفت على علاج سيدات رائعات في قمة الأناقة والجمال، قررن التخلص من ثديهن المريض وكلهن أمل في مواصلة الحياة بشكل طبيعي. والآن بعد أن شفين، في كل مرة يزرنني فيها ــــــــ من أجل الفحص الروتيني الذي يدخل في إطار المراقبة ـــــــ أرى ملامح الحزن والكآبة بادية عليهن بجلاء.فهن لا يزلن وحيدات لأن معظم الرجال، لكيلا نقول كلهم، يلذون بالفرار بمجرد معرفتهم بحالتهن. هذا هو واقعنا وهذه هي مرآة المساواة لدينا. الرجل في مجتمعنا “لا يعيبه إلا جيبه” أما المرأة فهي “عورة” و “ناقصة” وهي كاملة الجسد، فكيف وهي بثدي واحد؟

نعم، المرأة فيالمجتمعاتالذكورية ثدي ورحم !! فإذا استأصلنا ثديها ووضعنا حدالخصوبتها بالعلاج الكيماوي ما الذييتبقى من أنوثتها؟ اعذروني فهذه هي الحقيقة المرة التي لا زالت موجودة في مجتمعنا ولو بحدة أقل من ذي قبل. أتذكر دائما سيدة جاءت بها الأقدار من جبال الريف بحثا عن لقمة العيش،وتم تشخيص سرطان الثدي لديها في مرحلة أولية ولكن متقدمة محليا تستلزم استئصال ثديها المريض. لقد رفضت هذه السيدة موضوع الاستئصال بشكل قاطع لأنهالم تتزوج بعد ولا ترى إمكانية حدوث ذلك إذا أقدمت على هذا النوع من العلاج. توفيت هذه السيدة في غضون سنوات قليلة وذلك بعد أن تفشى فيها المرض وأصبح مقاوما لكل أنواع العلاج المتوفرة، توفيت لأنها اختارت ألا تعيش بثدي واحد. لكن … هل تظنون حقا أنه كان اختيارها؟

ولا نعتقد أن النساء المسنات لا يبالين إذا تم استئصال ثديهن المصاب بالسرطان. فإن كن لا يولين اهتماما كبيرا من الناحية الجمالية فإنهن يعتقدن أنه أول جزء من جسدهن يوارى التراب. عندما أخبرتني إحدى السيدات بذلك وكانت في حالة من الخشوع والاستسلام، تلعثمت ثم توقفت تماما عن الكلام. فأنا نفسي لم أعد مقتنعا بما كنت أقوله دوما في مثل هذه الحالات.

هناك نوع آخر من المعاناة متعلقبمرحلةالعلاج الكيماوي. فبالإضافة إلى المضاعفات العامة والخاصة بكل علاج، تعاني النساء كثيرا من مسألة تساقط الشعر. ومهما أكدنا لهن أنه سينمو من جديد وأنه في بعض الأحيان يكون أكثر رونقا وجمالا، تبقى شكوكهن قائمة وتمر شهور بئيسة قبل أن يتصالحن مع المرآة ومع العالم كله. خلال هذه الفترة يختفي جمال المظهر ويطفو على السطح جمال الروح وتبرز المعادن الصافية والمشاعر السامية. فالشيء الذييرسم البسمة على وجهي ويغمر قلبي فرحا وسرورا، ويجعلني لا أفقد الأمل في هذا الشعب الطيب، هو رؤيتي لأزواج متمسكين ببعضهم البعض مترافقين في هذه الرحلة الشاقة والطويلة، معلنين انتصار المحبة والوفاء ولو في حالات قليلة.

نحن نعاني مع مرض السرطان منذ اللحظة الأولى التي نتلقى فيها الخبر. نعاني من وقع الخبر ومن غموض المصيرومن قساوة العلاج. ولكن إيماننا وغريزة البقاء فينا تجعلنا نتمسك بالأمل ونُقبل على العلاج رغم قساوته… وتمر شهور طويلة كلها ألم وأمل وتضحيات جسيمة. وتعود الحياة، تعود الأخبار السعيدة لترسم الفرحة على الوجوه الحزينة. لقد اختفى السرطان وأصبح في خبر كان. لكن لسان حال المريض يقول:”أنا لا زلت نفس الإنسان ولم أعد مريضا بالسرطان،فلماذا عليَّ أن أعاني من الهجر والجفاء ومن نظرات الشفقة ومن الإقصاء؟ وهل تراها تعود الأيام الأليمة؟”

لا شك أننا نؤمن بأن مجتمعنا نبيل في أصله، كريم بطبعه، يطمح دائما في أن يكون حاضناً ومتسامحاً. فَلِنتَعلَّم معاً كيف نحافظ على تضامننا وسُمُوِّ مقصدنا وأخلاقنا الكريمة.ولنحارب الجهلفي كل إنسان … بقدر محاربتنا للسرطان !!

زر الذهاب إلى الأعلى
مستجدات