رضوان المسكيني “نهى بريس”
هناك أفكار ترسخت في أذهاننا منذ الطفولة وغالبا ما يرجع مصدرها إلى الثقافة الشعبية من خلال تلك القصص التي رويت لنا، أو حتى التي دُرست لنا في البرامج التعليمية والتي غالبا ما كانت تتحدث عن مستقبل وانهيار الأمم بسبب الحروب والزلازل أو الأمراض الفتاكة كـ “الطاعون”. فكان لكل قصة مغزى ووراء كل منها هدف، إلا أن الاختلاف يبقى في طريقة العرض والإلقاء، دون تجاهل مستوى إدراك كل شخص منا والذي تختلف مستوياته – الإدراك – .
إن فهم “معنى” أو بالأحرى “مغزى” هذه القصص، إذ غالبا ما فسرت لنا تفسيرا ماديا، خاصة والعارض ينظر إلى الطفل على أنه صفحة بيضاء، مع العلم أنه يخفي داخل مكنوناته جواهر ثمينة لا تحتاج إلا الصقل لتظهر مواهبها إلى العالم. إن تاريخ البشرية حافل بهذه القصص التي تحدثت عن أسباب انهيار الأمم، إلا أن النقطة الوجيهة التي وجب علينا إدراكها في حينها، هي أن السبب راجع إلى قوتين أساسيتين، وهما “الهدم” و “البناء”. هاتين القوتين متلازمتين على الدوام، فقد تتقدم الأولى لتليها الثانية، والعكس صحيح. لكن تراتبية القوتين ليس هو بيت القصيد، بقدر ما يدفعنا حد التساؤل إلى السر الذي يجمع بينهما؟ فلقد قال تعالى في كتابه العزيز: “لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب”. عبارة جاءت على لسان الخالق، فهي دقيقة في معناها، ولو قمنا بالنظر إليها من زاوية التفسير الروحاني، نستنتج أن الكلمة الإلهية التي تمطر بها سماء المشيئة على العباد لها تفسير خاص في زمن خاص ومن طرف “مرشح” خاص. إنه المختار الذي يحمل اسم الرسول أو النبي الذي له هدف يتمثل في تربية العالم الإنساني. إنه حكيم كل زمان (غابر وحديث) صاحب التربية الروحانية والإنسانية والجسمانية، إنه الشاهد والمبشر والنذير. فالرسول يكون شاهدا للرسالة التي سبقته ومبشرا برسالته ومنذرا برسالة تليه، حتى لا يسلك قومه نفس سلوك الأمم التي سبقته. مصداقا لقوله تعالى: “يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا”. إنها سنة الحياة التي لا يمكن التنكر لها أو الحياد عنها، إنه الإعراض والاعتراض الذي يكون سببا في هلاك الأمم، وبالتالي تظهر عظمة الله بظهور علامات ” تنبه الناس إلى ما سوف يكتنف الحياة في ظلمة الليل البهيم عندما يختفي نور الحق وتظلم سماء الدين على الأرض، وتتزلزل أراض القلوب بزلازل الشك والافتتان وتتجمد بحور العلم والحكمة وتتكدر شمس الحقيقة وتتكور فيذهب ضوءها، وتسقط أنجم الهداية، وتضطرب أحوال العالم، وتعم الفوضى وتستعر نيران الحروب ويشتد الكرب وتضيع قيم المبادئ الروحية وتتدهور الأخلاق ويسود سلطان المادة ويشتد التنازع بين الأمم “كتاب قبسات” / ذ: (سيفي إبراهيم سيفي). كل هذه العلامات بمثابة وجه واحد لعملة واحدة تسبح في بحر تتلاطم فيه أمواج الهدم بأمواج البناء، فيتناثر بريقها – العملة – ليشد أنظار العالم إلى نظم جديد مفعم بالحياة يحمل بين طياته عنوانا كبيرا وهو وحدة العالم الإنساني. الوحدة أو الاتحاد الذي اتَّجهت نحوه قلوب الخَيِّرين من البشر عبر القرون، وتَغَنَّى به ذَوو البصيرة والشّعراء في رؤاهم جيلاً بعد جيل.
إن ما وعدت به الكتب المقدًّسة للبشر على الدّوام، عصراً بعد عصر، أصبح اليوم في متناول البشرية، حيث راح كل شخص يتطلع إلى كوكب الأرض بمنظار واحد رغم اختلافات الشعوب وتعددها من حيث الألوان والأجناس. إن البشرية في جميع أدوارها كانت محكومة بما يمكن تسميه (قانون الاختلاف) “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم”. فالاختلاف – كواقع خارجي ـ كان موجوداً وقائماً في مختلف المراحل التاريخية، وهو نتيجة طبيعية لقانون آخر وضع الله تعالى البشرية في إطاره، وهو: قانون الامتحان والاختبار، ليتبين أهل اليمين من أهل الشمال، والذي شكل المنهج الوحيد لعملية البناء والتكامل للأمم والأفراد في اتساق رباني جمع بين الروحانيات والماديات حتى تتعايش فيه الأقوام تحت شجرة الاتحاد وكأنهم “أوراق شجرة واحدة وقطرات بحر واحد. فلقد بدأ الاختلاف في الحياة الإنسانية بسبب تأثير “الهوى” على النفس البشرية كقوة جاذبة توازن في عملية الإرادة والاختيار فيطغى الجانب المادي على الروحاني، فتتزلزل قوة العقل فتكون النتيجة تدهور الفطرة الإنسانية السليمة، حيث تعتمد “النفس” بالأصل على رؤية الأمور عملياً من خلال المحسوسات المادية فقط، والمشتهيات الدنيوية التي تتطلبها الغرائز الإنسانية، فتعتمد على المشاعر والأحاسيس التي تخلقها المصالح الوقتية في مقابل العقل الذي يعتمد على الرؤية الصحيحة والدقيقة لواقع الكون والحياة، والذي في تخلفه يضرب أكبر مبدأ في الحياة ألا وهو “تحري الحقيقة”. والنظرة إلى الحياة الإنسانية على أساس أنها حياة لها امتداداتها الغيبية في المبدأ والمآل، ونقصد “استمرارية الروح في العوالم الإلهية”، وأن لها حاجات مادية وروحية معا لابد من تكاملها في المتطلبات والالتزامات، وإن أهمية إيجاد التوازن بينهما في العمل والسلوك لهو من الأدلة الكبرى على المساهمة في اتحاد الجنس البشري، لأن الإنسان بمثابة خلية واحدة من جسم الجنس البشري. إن التمعن في التاريخ لا فرق بين قديمه وحديثه، نجده ممتليء بالانتكاسات الحضارية والتي غالبا ما تعزى أسبابها إلى الابتعاد عن الدين أو الإسراف في التدين، خصوصا إذا ما انتهت صلاحية الدواء “الرسالة”، والذي لا بد من تجدده حسب مستوى ترقيات البشر من حيث الزمان والمكان، ليصبح عنوانا جديدا للحياة. إنّ هذا اليوم، هو يوم وحدة العالم البشري واتّحاد جميع الملل. ففي الماضي كانت التّعصبات سبباً للجهالة وأساساً لتنازع البشر، ثمّ جاء هذا اليوم الظّافر بعناية الله القادر، وعمّا قريب تتموّج وحدة العالم الإنسانيّ في قطب الآفاق، وينقطع الجدال ويزول النّزاع، ويتنفّس صبح الصّلح الأكبر، ويتحوّل العالم إلى عالم جديد، ويصبح جميع البشر إخواناً، وتصير كافة الملل رايات لله الأكبر الجليل، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ. فهل من مجيب؟