إبداعات

نِساء بِشَـارب و عَضــلات مفْتُـولــــة

HGGFGH5454

بقلم: شيماء الامغاري //نهى بريس//

أحيانا أحب مداعبة الخيال و العبث بأطيافه، دون أن يسألني أو يسائلني احد، فتخامرني أحاسيس مشاكسة فبطبعي اكره التقيد بفسيفساء الحياة العتيدة و هندسة الكون التقليدية ،كما اكره المألوف و المعتاد و العزف على إيقاع واحد، فاخترع عوالم أغوص بدواخلها مكسرة رتابة الواقع ، فأكون فيها ملكة على ريشتي ،أصوغ ألوان الحياة كما تسور لي الظلال العابثة. لبرهة انقطع عني حديث نفسي و لغوها، و أطبق صمت رهيب في غرفتي، فنظرت للمرآة القائمة أمامي أدرتها، فامتثلت أمامي مشاهد تستدعي للسخرية و الضحك، انتزعتني من صمتي العميق و أثارت حولي زوبعة من الأصوات المنبعثة من الظلال الحائمة حولي، مؤلفة مشاهد و حوارات و سيناريوهات خرقاء.

– المشهد الأول

فانزويت و نفسي أشاهد شاشة ضخمة قد انبعثت من خيال معتوه ،فتراءى لي أطياف الرجال بخشونتهم و حناجرهم المزعجة عندما تصدح من المقاهي، كلما لج بهم الغضب أو احتدم النقاش بينهم، في عربدة تبين عن حبهم لفرض السيطرة و الهيمنة.

هم ملوكك الشوارع يتجولون بأريحية، دونما التعرض للمضايقات و مختلف التحرشات، ليسوا بحاجة لوضع احمر الشفاه أو حمرة الخدود ، لا يزورون صالون الحلاقة سوى مرة في الشهر عندما تنموا خصلات شعرهم و تتذلى لحيهم من على ذقونهم.

يخرجون في مواعيد غرامية مع صحيباتهم و يأبوا أن تخرج أخواتهم في نفس الموعد، و يثيرون الويل و الوعيد إذا ما تأخرت أخواتهم عن موعد العودة للبيت،و يفرضون عليهن رقابة صارمة. يرى رجولته في تأبط فتاة ذراعه الممدودة، فينزوي هو و محبوبته في ركن من أركان حديقة عمومية،بعد آن يظل الليل بوجومه المكفهر الكون بستاره المسود حتى لا تبصرهما الأعين، و تنجلي عنهما ، فيسرقان لحظات من الحميمية المحمومة بالخوف و المضطربة، كلما اقترب منهما ظل أو حركت الرياح العابثة غصون الأشجار المترامية كأنه لقاء أثم ممزوج بالمعصية الرذيلة و الخطيئة. رجل يمارس شهرياريته ببيته معلنا سيادته فيلعب دور سيد القوم على زوجته المسكينة، يأمر و ينهى و هي كالعبدة المغلوب عن أمرها، لا تستأثر بحياته سوى بدور ثانوي، تنفذ و لا تعصي له طلبا ، عزاؤها الوحيد يتمثل في حب تعيشه و أبطال الأفلام التركية التي على التلفاز عندما يكون بعلها الخشن بالعمل أو رفقة أقرانه بالمقهى.

هذا الحب التركي الذي غزى شاشاتنا، و أوهم فتياتنا بحياة لا تتعدى فصولها سيناريو الكاتب، فصور لهن صورة عاشق متيم كقيس أو روميو في مجتمع لا يجيد رجاله سوى الأكل ،و ممارسة حقوقهم الشرعية بطريقة ميكانيكية خالية من الود العطف الحب الرقة و المشاعر الرومانسية، عندما يقوم البطل المزيف بإشعال الشموع الحمراء و تفريش الأرض بالورود و الأزهار و رسم للقلوب و عبارات يصممها بأناقة بطريقة شعرية تلامس الخوالج و تسبح بسيدته في عالم وردي، فما أضيق العشق العربي حين تحاصره الجدران، فيصير فعلا لإثبات الفحولة، حب عار يشبه القصف في غارة حربية، حب يستهلك الجسد استهلاكا قاتلا ،و لا يدرك من العواطف و الأحاسيس شيئا يذكر.

– المشهد الثاني

فتخيلت النساء بأجسامهن الممشوقة الريان، يضعن شاربا مقوسا كهلال مقلوب يستعمرن المقاهي فيتبادلن تحية بسيطة تتألف من كلمتين السلام عليكم و تصافح بالأيدي و أحيانا تربث إحداهن كثف الأخرى ، يشبكن أرجلهن يطالعن الجرائد و يتلصصن خلفها نظرات كلما مر بقربهن رجل يتفرسن تفاصيل جسده، فمنهن من تكتفي بنظرة خاطفة و منهن من تحدجه بنظرات ثاقبة، فهذا منكوب الكتفين و الأخر مائل للسمرة،هذا طويل و الأخر قصير هذا جميل و الأخر دميم، فتطلق صفيرا أو عبارات سوقية من قبيل (ازين منتشاوفوش،هز عينيك نشوف الزين )… يرتشفن القهوة و يدخن السجائر، معتمات الفضاء بدخانها المتصاعد، تخيلت أحاديثهن التي ستملؤها الخشونة و الرعونة و التي غالبا ما ستتمحور حول كرة القدم الأندية الرياضية بين مشجعة للاعب و وبين ساخطة للوضع الذي يمر منه ناديها الكروي المفضل، وجديد الساحة السياسية بين معارضة لتيار سياسي و مؤيدة لإيديولوجية معينة ، وقد تتهامس بعضهن فتتبادلن الشكوى و التذمر من حال بعولهن ممن أهملوا الاعتناء بمظهرهم الخارجي، بسبب انكبابهم و انشغالهم بأمور بالبيت و الاعتناء بالأطفال حتى تدوحت بطونهم وتدلت وقد تسلل المشيب إليهم، و منهن من انكبت على حل الكلمات المتقاطعة بنهم كبير غير أبهة بالأصوات حولها.

و بعد ساعة و قليل من الزمن ينتشرن في الأرض كسيل متدفق ،متوجهات لمقر عملهن و أخريات تربضن بالمقهى ممن لم يحالفهن الحظ في الحصول على وظيفة، أو ممن تقاعسن عن البحث عن عمل فألفن الربوض في المقهى لتمضية الوقت و التسلية.

في الزاوية الأخرى من المرآة تراءى لي الرجال يعتنون بشؤون البيت من غسيل و نشر للملابس و كيها و كنس و مسح، حتى يصبح البيت نضيدا نظيفا ،ثم يتوجهون للمدرسة لجلب الأبناء بعدها إعداد مائدة الطعام استعدادا لاستقبال زوجاتهم لدى عودتهن من العمل.

و في المساء يحلقون للسطح ليتبادلوا الحديث فيتعانقون و يقبلون بعضهم البعض قبلات تترك بقعا حمراء في الوجنة ،من شدة الضغط كعضة نحلة، فيبدأ المسلسل المعتاد بينهم مبتدئا بكيف حال الأبناء و الزوجة والحال و الأحوال و يمسكون بأيدي بعضهم معبرين عن حبهم و يتخذون مقاعدهم في جلسة دائرية . فهذا يسال جاره عن الخياط الذي فصل لديه بدلته ، و آخرون قد انزووا في ركن ركين يتهامسون و يتحدثون عن العمل السحري الذي قاموا به عند الفقيه الذي يقطن بالحي المقابل لهم و عن فعالية الحجاب الذي أوصاهم بخياطته داخل وسادة الزوجات، و عن أثاره العجيبة على زوجاتهم إذ أصبحن مطيعات محبات يصرفن بسخاء و لا ينظرن لسواهم و لا يتأخرن في المقاهي بل يعدن للبيت مباشرة بعد انتهاء ساعات العمل.

انفلتت المرآة و تحطمت لشظايا انتشرت في كل أرجاء الغرفة، و اندثرت معها صورة الأطياف الطائشة ،فعاد إلي رشدي و صوابي اللذان كانا قد تسللا مني لعالم الخيال و التخيل الطريف الممزوج بالواقع . الواقع الذي تقر به حقيقة أن المرأة في عصرنا قد تكون رجلا، لكن الرجل لا يستطيع أن يكون امرأة ، و لا أن يلعب أدوارها التي قد تزيد عليها هي أدواره دون شارب ،فهو يكتفي بوظيفة واحدة، أما هي فتستطيع أن تغطي كل الجبهات و تتكيف مع مختلف الأوضاع التي تضعها فيها الأقدار، فتقدر على الموازاة بين واجبها كأم تجاه أبنائها و زوجها حتى و إن كانت تعمل خارج البيت لتعيل أسرتها ،تلعب ثنائية الأم و الأب فتجمع بين الشدة و اللين و الحب و الحنان و العطاء، فقد نتخيل بيتا بلا أب، لكن يصعب أن نجد بيتا متماسكا تغيب فيه لمسة امرأة، فهن يستطعن العيش بشارب و عضلات مفتولة، أما هم فلا يستطيعون ارتداء كعوب عالية و لا الحصول على ضرع مرضع .

زر الذهاب إلى الأعلى
مستجدات