بقلم مونية علالي
قراءة مقارنة بين إيطاليا، فرنسا، بريطانيا،ألمانيا، اسبانيا والمغرب
يشهد العالم اليوم تحولات عميقة في البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية مع بروز جيل “زاد”، المولود بين منتصف التسعينيات ومنتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة. نشأ هذا الجيل في فضاء رقمي منفتح على العالم بفعل العولمة والإنترنت، لكنه وجد نفسه في مواجهة أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. ورغم اختلاف تجاربه من بلد إلى آخر، فإنه يشترك في البحث عن العدالة والمشاركة الفاعلة في مجتمعات سريعة التحول. من باريس إلى برلين، ومن مدريد إلى روما وصولاً إلى الرباط، يطرح هذا الجيل أسئلة كبرى حول العدالة المناخية والاجتماعية والمساواة، وقد غيّر خصوصًا في أوروبا أشكال النشاط المدني باستخدامه المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى أدوات تعبئة قادرة على حشد الآلاف خلال ساعات قليلة، غير أن التجارب أثبتت أنّ الحماس إذا لم يُرافق بالتنظيم والمعرفة قد يتحول إلى فوضى أو احتجاج قصير الأمد لا يحقق الإصلاح المنشود.
في إيطاليا، تقول السيدة مونية علالي إن جيل “زاد” برز بوضوح منذ عام 2019 مع انطلاق حركة “أيام الجمعة من أجل المستقبل” (Fridays for Future)، التي تأثرت بمبادرة الناشطة العالمية غريتا تونبرغ. هذه الحركة أطلقت شرارة تعبئة واسعة وسط طلاب المدارس والجامعات، حيث خرج عشرات الآلاف من الشباب إلى الشوارع في مدن كبرى مثل روما، ميلانو، تورينو، ونابولي للمطالبة بسياسات بيئية أكثر طموحًا واستعجالًا للانتقال إلى الاقتصاد الأخضر. وقد ساهمت هذه الاحتجاجات في جعل قضية المناخ في واجهة النقاش العام وأجبرت الحكومات المتعاقبة على إعادة النظر في سياساتها البيئية وسنّ قوانين أكثر صرامة لتقليل الانبعاثات وتطوير الطاقات المتجددة. وتضيف السيدة رشيدة مزيوي أنّ برامج مثل “شباب من أجل الكوكب” و”هاكاثون جيل زاد” وبرنامج “القادة الرقميون الشباب” ساهمت في ترسيخ التفكير النقدي وتعزيز ثقافة الاستدامة ومكافحة المعلومات المضللة، إلى جانب انخراط الشباب في مبادرات مدنية مثل “شبكة الشباب” ومجلس شباب اليونيسف في إيطاليا، إضافة إلى استفادتهم من خطط “الجيل القادم في الاتحاد الأوروبي” ومبادرة “المساحات المفتوحة” لمكافحة الفقر التعليمي بالأحياء الهشة. وأسفرت هذه الجهود عن إدراج قضايا المناخ والاستدامة في المناهج المدرسية والإعلام العام، وتعزيز تعليم المواطنة الرقمية وتوفير فرص التدريب وريادة الأعمال. ومع ذلك، يعاني جيل “زاد” الإيطالي من مفارقة لافتة؛ فهو الأكثر تعليمًا مقارنة بالأجيال السابقة لكنه يواجه معدلات بطالة مرتفعة ويُوصف بأنه جيل “المرونة القسرية” لقبوله بعقود عمل مؤقتة وضعيفة الأجر، ومع ذلك فقد أثبت حضوره كقوة فاعلة في التعبير عن استيائه من السياسات التقليدية وسعيه إلى حياة أقل استهلاكية وأكثر وعيًا بالقضايا المناخية والاجتماعية.
وفي فرنسا، تؤكد السيدة سناء الديري أنّ جيل “زاد” أظهر وعيًا سياسيًا مبكرًا تجلّى في حركات احتجاجية واسعة، من التظاهرات ضد إصلاح نظام التقاعد إلى الدفاع عن البيئة وحقوق الأقليات. وتضيف أنّ حركة “Youth for Climate France” ساهمت في تعبئة آلاف الشباب للضغط من أجل قضايا المناخ، فيما تحوّل حراك “Nuit Debout” من احتجاج على إصلاحات العمل إلى منصة وطنية للنقاش حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية مستفيدًا من قوة الفضاء الرقمي. كما برزت الناشطة أنوك شاربانتييه في الدفاع عن العدالة المناخية وحقوق المرأة، واستخدم شباب آخرون منصات مثل تيك توك وتويتر لإطلاق حملات ضد التمييز العرقي والسياسات الاقتصادية المجحفة، ما جعل الفضاء الرقمي امتدادًا للساحة السياسية رغم ما كشفه من هشاشة التحركات غير المنظمة وصعوبة تحويلها إلى إصلاح دائم. ورغم هذا الحضور، يعاني الشباب الفرنسي من أزمة ثقة في المؤسسات السياسية والإعلامية ويطالبون بنموذج ديمقراطي جديد يتيح مشاركة مباشرة عبر المنصات الرقمية والمبادرات المحلية، فيما يبرز لدى كثير منهم من ذوي الأصول المهاجرة توتر بين الانتماء الوطني والهوية الثقافية الأصلية، ما يدفعهم إلى إعادة تعريف المواطنة الفرنسية على أسس أكثر شمولية.
أما في ألمانيا، فتشير سناء الديري إلى أنّ جيل “زاد” نجح في تحويل غضبه إلى قوة اقتراحية منظمة، إذ قادت حركة “Fridays for Future” آلاف الطلاب للضغط على الحكومة لاعتماد سياسات مناخية طموحة وأصبح قادتها شركاء في الحوار السياسي، فيما أبقت حركة “Letzte Generation” رغم جدليتها قضية المناخ في صدارة النقاش العام، وأسهمت المجالس الشبابية المحلية “Jugendräte” في إشراك الشباب في رسم السياسات وتحويل طاقتهم الاحتجاجية إلى قوة اقتراحية مستمرة، لتؤكد التجربة الألمانية أنّ الحماس يحتاج إلى تنظيم ومعرفة ليصبح تغييرًا مستدامًا.
وفي بريطانيا، توضح السيدة وفاء امهادي أنّ جيل “زاد” هو الأول الذي نشأ في ظل الانقسام العميق بسبب خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وغالبية شبابه عارضوا القرار لأنهم شعروا بأن مستقبلهم الأوروبي قد سُلب منهم دون مشاركتهم فيه. ويُعدّ هذا الجيل الأكثر تنوعًا عرقيًا وثقافيًا في تاريخ البلاد ويتبنى قيماً ليبرالية واضحة فيما يتعلق بالمناخ والمساواة والحقوق الرقمية، لكنه يواجه ضغوطًا نفسية متزايدة نتيجة المنافسة في سوق العمل وارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع الخدمات العامة، ويميل إلى العمل التطوعي والمشاريع الرقمية بحثًا عن أشكال جديدة للتعبير الذاتي بعيدًا عن المسارات التقليدية.
أما في إسبانيا، فتذكر السيدة سهام مسعودي برجاوي أنّ هوية جيل “زاد” تشكلت على أنقاض الأزمة الاقتصادية لعام 2008 التي دفعت كثيرًا من الشباب إلى البطالة الطويلة أو الهجرة بحثًا عن فرص عمل، ورغم تحسن الوضع الاقتصادي تدريجيًا فإنهم ما يزالون يعانون من هشاشة مهنية وصعوبة الحصول على سكن، ويتطلعون إلى وظائف توفر لهم معنى ومرونة مع توازن بين الحياة الشخصية والمهنية، لكنهم يواجهون ضغوطًا نفسية ومشكلات مثل القلق والاكتئاب إضافة إلى صعوبة الاستقلال المالي في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة. ومع ذلك يتميز هذا الجيل بانفتاح ثقافي وتسامح اجتماعي وقدرة على التعبير عن آرائه عبر الفنون والموسيقى والإعلام الرقمي، وقد عكست حركة “Indignados” بدايات وعي جماعي جديد يطالب بسياسات أكثر عدلاً وشفافية وبمشاركة حقيقية في صنع القرار.
وفي المغرب، ترى نساء أكاديمية مغربيات العالم أنّ جيل “زاد” تأثر بعمق بالثقافات الرقمية العالمية التي تصوغها الأجيال الشابة في أوروبا، خاصة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ويتميز بتعدد اللغات وانفتاحه على العالم لكنه يعيش ظروفًا اقتصادية واجتماعية صعبة تتسم بارتفاع معدلات البطالة وضعف فرص التكوين. وفي الآونة الأخيرة خرج شباب هذا الجيل إلى الشارع مطالبين بإصلاحات في التعليم والصحة معبرين عن إحباطهم من غياب العدالة الاجتماعية، وأحيانًا واجهت الدولة هذه التحركات بمقاربات أمنية بدلًا من الحوار، ما عمّق فجوة الثقة بين الشباب والمؤسسات. ومع ذلك يظل جيل “زاد” المغربي من أكثر الأجيال وعيًا ورغبة في التغيير، فهو لا يكتفي باستهلاك المحتوى الرقمي، بل يبدع في الفن وريادة الأعمال وصناعة المحتوى، ويرى في الإصلاحات التي يقودها الملك محمد السادس فرصة لبناء مستقبل أكثر عدلاً وحداثة من خلال تحديث الإدارة وتعزيز رأس المال البشري ودعم المساواة في الفرص وتمكين الشباب، لكنّ مسؤولية التغيير تقع أيضًا على عاتق الشباب الذين عليهم تحويل الحماس إلى فعل بنّاء بعيدًا عن الاندفاع والقطيعة والعمل بروح جماعية لتحقيق طموحاتهم.
وتكشف هذه التجارب أنّ نجاح جيل “زاد” في إحداث التغيير لا يعتمد على قوة الاحتجاج وحدها، بل على قدرته على الجمع بين الجرأة والمعرفة، بين الحلم والمسؤولية. ففي ألمانيا تحول الشباب إلى شركاء في صنع القرار، وفي فرنسا أظهروا قوة الفضاء الرقمي لكنهم يواجهون تحدي الاستدامة، أما في المغرب فيمتلك الشباب طاقة واعدة تحتاج إلى تأطير وحوار دائم مع المؤسسات. فجبل “زاد” ليس مشكلة ينبغي تقييدها، بل قوة يجب مرافقتها وتوجيهها، وهو يعكس توقًا عالميًا نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنصافًا ويملك من الأدوات الرقمية والوعي ما يجعله قادرًا على المساهمة في بناء وطنه، شرط أن يوازن بين طموحه الوطني وانفتاحه على العالم وبين حماسه الشبابي وحكمة التجربة، لأن النهضة الحقيقية تولد من هذا التوازن الدقيق.
جيل “زاد” بين القيم الجديدة وتحديات الواقع قراءة مقارنة بين إيطاليا، فرنسا، بريطانيا،ألمانيا، اسبانيا والمغرب
