دين و دنيا

إن مع العسر يسرا

dfhsdfhsdfh21354534f3bhdf

“بقلم: د. زياد موسى عبد المعطي أحمد”

من السنن الكونية عبر تاريخ البشرية أن المحن والابتلاءات تأتي بعدها المنح الإلهية والعطايا الربانية، وأن بعد العسر يأتي اليسر، وهذه السنن الكونية نجدها واضحة بصورة جلية منذ فجر تاريخ البشرية حتى أوقاتنا الحالية، وتستمر حتى قيام الساعة التي علمها عند الله رب البرية. فهيا بنا في رحلة قصيرة عبر صفحات التاريخ لنرى سوياً أن بعد العسر يسرا، وأن بعد الشدة يأتي الفرج، ونرى أن المحن عطايا إلهية من رب البرية.
قبل خلق آدم عليه السلام كان في علم الله أن آدم هو خليفة الله في أرضه، وأن آدم وذريته سوف يسكنون ويعمرون الأرض، فكانت محنة خروج آدم وحواء من الجنة منحة إلهية لكي يتعلم آدم وذريته أن المعصية جزاءها الطرد من الجنة، ولكي نتعلم جميعاً أن الشيطان لنا عدواً فلا نتبع خطواته وإغواءه فنطرد من رحمة الله، وأن الله يقبل توبة التائبين، كما قبلها من آدم وحواء، وأن المتكبرين والمتغطرسين يكونون من إخوان الشياطين مع إبليس اللعين. ومحنة قتل قابيل لهابيل تعلمت منها البشرية كيفية دفن الموتى، وهذا الدرس تعلمته البشرية من غراب، وتعلمت البشرية أن الطمع والأنانية سبب كل بلية للبشرية.
وفي قصة سيدنا إبراهيم الخليل نجد المنح تأتي بعد المحن، فنجد محنة الإلقاء في النار من الكفار تتبعها منحة أن قال الله للنار “كوني برداً وسلاماً على إبراهيم”، ثم الجائزة الإلهية باصطفائه للنبوة، ثم كانت محنة عدم الإنجاب بعد أن بلغ من العمر عتيا، وكانت زوجته السيدة سارة عاقرا، أتبعتها الجائزة الربانية، فوهبه الله إسماعيل واسحاق، بل جعله أبو الأنبياء، وبعد محنة تركه زوجته هاجر وولده اسماعيل في صحراء جرداء، إذا بالمنحة الإلهية باستجابة الدعاء، وتفجر بئر زمزم، وجعل الله مكة بلداً آمناً، وبعد محنة تنفيذ الأمر الإلهي بذبح ولده اسماعيل إذا بمنحة الفداء العظيم الذي يقتدي به المسلمين إلى يوم الدين. وإذا بالمنحة الإلهية الكبرى أن يرفع إبراهيم القواعد من البيت واسماعيل، ويؤذن إبراهيم بالناس في الحج فيأتون رجالاً من كل فجٍ عميق استجابة لآذان إبراهيم عليه السلام.
وفي حياة سيدنا يوسف نجد العطايا الربانية بعد الابتلاءات الإلهية، فبعد ابتلاء كيد الإخوة والوقوع في الأسر والرق نجد العطايا الربانية بالتربية في بيت عزيز مصر الذي يتخذه ولداً، فيتعلم أصول الحكم، وبعد ابتلاء السجن تكون الهبة الإلهية بأن يكون يوسف عليه السلام عزيز مصر (رئيس الوزراء)، ويجمعه الله مع أبيه وأخوته.
وفي حياة سيدنا موسى نجد أنه بعد المعاناة والاختبار الإلهي يأتي الخير العظيم، فبعد تنفيذ الأمر الإلهي من أم موسى بإلقائه في اليم، إذا بالمنحة أن موسى يتربى في بيت فرعون الذي يتخذه ولداً، وبعد محنة الهروب إلى أرض مدين إذا الهبة الربانية بالزواج من ابنة الرجل الصالح، ثم الاصطفاء والاختيار للنبوة والرسالة في طريق عودته إلى مصر.
وفي سيرة الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الابتلاءات والاختبارات تليها المنح والعطايا الربانية، واذكر هنا القليل منها، فابتلاء اليُتم كان فيه عطاء رباني وهو التربية الإلهية، فكما يقول الحبيب المصطفى “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، وابتلاء إيذاء الرسول من أهل الطائف تبعه التكريم من الله برحلة الإسراء والمعراج، واختبار اضطهاد أهل مكة للرسول، والهجرة إلى المدينة كان فيه منحة إلهية ببداية تكوين الدولة الإسلامية، وابتلاء غزوة الأحزاب “إذ بلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون” تبعه دخول قبائل عربية في الإسلام، وفتح مكة، وغير ذلك كثير.
ونأخذ من التاريخ الإسلامي فترة الضعف التي مرت بالأمة الإسلامية، وسقوط القدس في يد الغزاة الأوربيين، أعقب ذلك الهدية الربانية وهي ظهور البطل “صلاح الدين الأيوبي” الذي حرر الأقصى الأسير، وصنع لنا تاريخ نفتخر به ونعتز بأن أنجبت لنا الأمة مثله.
ونأخذ من حياة العلماء العالميين الذين لهم فضل في التقدم العلمي في العالم أجمع، حياة العالم “توماس أديسون” الذي اخترع العديد من الاختراعات، منها المصباح الكهربي، وجهاز الأشعة الطبية، حيث كان هذا العالم العبقري ضعيف السمع؛ لا يسمع إلا بواسطة سماعة صناعية، وكان فقيراً، في طفولته، فعمل بائعاً للجرائد، وكانت أمه تزرع فيه حب العلم، وتعطيه كتب في الفيزياء، فما كان منه إلا أن أسس لنفسه معملاً صغيراً في أحد عربات القطار القديمة، وكان يجلس فيها في فترات الراحة التي بناها ، ويخلع سماعته، ويقوم في عربة القطار هذه بتجاربه، فكان ضعف السمع نعمة إلهية لـ”توماس “حيث كان لا يشعر بأية ضوضاء أو ضجيج من صوت القطارات بعد إزالة السماعات الصناعية، فضعف السمع ساعد في صنع هذا العبقري الفذ.
وأضرب مثلاً آخر لأحد العلماء البارزين في مصر، حيث قرأت حوار أجري معه في إحدى الجرائد حيث حصل على مجموع في الثانوية العامة أقل بحوالي 20 درجة من المجموع اللازم لدخول كلية الطب التي كان يحلم بدخولها، فدخل كلية الزراعة، وتفوق فيه وعين معيداً، وتدرج في الوظائف حتى صاراً عميداً لكلية الزراعة بالفيوم، ثم صار رئيساً لمركز البحوث الزراعية، ثم محافظاً للفيوم، ثم مستشاراً لوزير الزراعة، فكانت محنة الحصول على درجات أقل مما كان يتمنى في الثانوية منحة إلهية غيرت مجرى حياته فأصبح نجماً في المجتمع، بدلاً من أن يكون طبيباً عادياً، وهذا مما قرأته في حديث للدكتور “سعد نصار” العالم المصري البارز.
وأضرب مثالاً لأحد أصدقائي، كان متفوقاً في مراحل التعليم قبل الجامعي، ولكنه حصل على مجموع أقل مما يريد في الثانوية العامة، ودخل كلية لا يرغب فيها بناءً على رغبة والده، ودخل هذه الكلية كارهاً لها، فحصل على مقبول في جميع المواد في العام الأول له في الحياة الجامعية، ثم رسب في العام الثاني له في الكلية، فتسبب ذلك في صدمة شديدة له زلزلت أركانه وجوانحه، ودفعته للمذاكرة والجد والاجتهاد، فذاكر واجتهد واستعاد ذاكرة التفوق، ثم واصل دراسته العليا وحصل على الماجستير والدكتوراه فكان رسوبه عاماً في الكلية محنة مر بها، تبعتها المنحة الربانية بمواصلة التفوق والحصول على الدكتوراه.
وإذا عاد كل منا بذاكرته إلى الوراء، حيث يستعرض شريط أحداث حياته الماضية لوجد أن كثيراً من الأمور التي حدثت له وكان يكرها وقت حدوثها كانت خيراً له، وجعل الله له فيها خيراً كثيراً، وأن ساعات العسر يأتي بعدها أيام يسرا، وأن ساعات الفشل مع أصحاب العزيمة والطموح تتبعها أيام وسنوات للنجاح والتفوق.
فإلى كل من يعاني محنة وعسر أقول له أطع الله، وأخلص إلى الله في الدعاء، واعمل واجتهد فسوف تجد المكافأة من الله بالعطايا الربانية، والمنح الإلهية، فكان مما علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا أصاب أحدنا ما يكرهه أن يقول “اللهم اخلفني في مصيبتي وابدلني خيراً منها”، تعلمتها أم سلمة وقالتها بعد استشهاد أبو سلمة، وقالت في نفسها من خير من أبو سلمة، فرزقها الله بالزواج من رسول الل صلى الله عليه وسلم. ولنتذكر جميعاً أن الله ذكر في صورة الشرح مرتين “إن مع العسر يسرا” للتأكيد إضافة إلى التأكيد بـ “إن”، وأن العسر معرف فهو مفرد، أما اليسر فتم ذكره بصورة النكرة، ولذلك فهو كثير، فعقب المحنة الواحدة تأتي المنح الكثيرة والجوائز العديدة.
وإني أقترح على القنوات التليفزيونية أن تقدم برامج تحمل هذا المعنى، فاقترح أن يتم تقديم برامج دينية توضح ساعات العسر في حياة الأنبياء والصالحين، وأنها تحولت بفضل الله والصبر والعمل الدؤوب والطاعة إلى يسر وخير بإذن الله، واقترح أن يكون اسم هذا البرنامج “إن مع العسر يسرا” أو “عسى ان تكرها شيئاً وهو خيراً لكم” أو “المحن منح ربانية”، وأيضاً أن يتم تقديم برنامج ثقافي يستضيف العديد من نجوم المجتمع من رجال السياسة والعلم والرياضة وغير ذل من المجالات، يتحدث كلاً منهم عن أزماته وكيف تحولت إلى نعمة بفضل الله الذي وفقهم للصبر والعمل الدؤوب حتى تمكنوا من النجاح، واقترح أن يكون اسم البرنامج “أزمة واستفادة” أو “أزمة وانفراجه”.

نهى بريس

زر الذهاب إلى الأعلى
مستجدات