لئن يعتبر اللجوء إلى السحر والشعوذة والبحث عن حلول ميتافيزيقية لمشاكل الحياة، ممارسة قديمة لم يخل منها مجتمع، إلا أنّ تفاوت ارتفاع منسوبها بين مجتمع وآخر يدفع إلى البحث عن أسباب ذلك ودواعيه. فذيوع ظاهرة السحر والاعتقاد في الغيبيات ومفعول التمائم في المجتمعات العربية الإسلامية، كما الأفريقية، لا يعني أنها غائبة في المجتمعات الغربية، إلا أن توسّع الظاهرة وسطوتها تفرض ضرورة البحث في المحركات الاجتماعية للظاهرة، وعندما نلحظ، انطلاقا من إحصائيات متداولة، أن الأمر متوسّع عند فئات النساء أكثر من فئة الرجال، يصبح الأمر أكثر تعقيدا وأكثر دفعا لطرح الأسئلة: ما هي الأسباب الثقافية والفكرية والدينية التي أتاحت توسّع ظاهرة الشعوذة في المجتمعات العربية الإسلامية؟ هل تتوفر المرأة على قابلية لتصديق الخرافة تفوق قابلية الرجل لذلك؟ هل يعقل أن الشعوذة وفّرت إجابات يسيرة عن أسئلة عجز أمامها الطب وعلم النفس أو علم الاجتماع؟ ألا يعكس ذلك خللا تعليميا ودينيا وإعلاميا؟
أضحت الشعوذة ملاذا لملايين السيدات العربيات، يبحثن من خلالها عن حلول للمشكلات الاجتماعية والأزمات النفسية، وأحيانا عن علاج لأمراض عضوية. فالأوضاع السيئة التي تعيشها كثيرات غرست سمات سلبية في تكوين قطاع كبير من النساء العربيات، وجعلتهن أكثر قابلية لتصديق الخرافات، وعززت لديهن عدم القدرة على التعامل أو التأثير في واقعهن المعيش.
تحوّل لجوء النساء إلى حلول ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) من أجل امتلاك سلطة مهضومة أو ترميم كرامة مهدورة، إلى ظاهرة تستوجب التساؤل، فكيف أصبح العالم العربي مرهونا بعالم ما وراء الطبيعة، في وقت يركض آخرون وراء تعميم ثقافة الحداثة والتكنولوجيا والمعرفة.
كشفت بعض الإحصائيات أن العالم العربي ينفق سنويا الملايين من الدولارات على أعمال الدجل والشعوذة، وأن نحو 70 بالمئة من المترددين على الدجالين سيدات، ونسبة ليست هينة ممن يمارسون هذه الخرافة سيدات أيضا.
في هذا السياق، صدرت دراسة عن المركز القومي للبحوث الجنائية الاجتماعية بالقاهرة، أكدت أن نصف المصريات يعتقدن في الخرافات، وأن ما يسمى بـ”الجن والعفاريت” يؤثر على مجريات حياتهن.
لكن هل يعني هذا شعورا بالدونية، أو أنهن ناقصات عقل، وبالتالي يهربن إلى الغيبيات لحل مشاكلهن؟ وهل ضاعف كون المرأة “مفعولا به” شعورها بالعجز، وجعلها تسير على درب الآخر، سواء كان متصلا بالواقع أم بعالم الجن والعفاريت؟
سامية الساعاتي أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، قالت لـ”العرب” إن المرأةَ في بعض المجتمعات العربية أكثر ميلا لتصديق الخرافة من الرجل، وتعتقد أن السحر وسيلة لحلّ الأزمات التي تتعرض لها.
وكشفت لـ”العرب” من خلال دراسة أعدتها أن 56 بالمئة من المترددات على المشعوذين من المتعلمات اللاتي لديهن مشاكل زوجية.
وتوصلت الساعاتي إلى أن سبب ارتفاع النسبة بين النساء إيمانهن بالغيبيات، ونشأتهن على الخرافات والأساطير الشعبية عن الجان وقدرته على إحداث المستحيل.
أسباب كثيرة رصدتها “العرب” جعلت المرأة ضيفا دائما على محلات العطارة بحثا عن أشياء غريبة، من قبيل “مرارة قنفذ” أو “شعر ضبع” أو “لسان حمار”، أملا في السيطرة على الزوج أو صرف نظره عن النساء أو منع اختلال العلاقة الأسرية، أو سعيا للإضرار بضرة، أو حلاّ لمشكلة عنوسة.
المــــــرأة العـــــــربية، تاريخيا، لها أدوار فاعلة في المجتمع وكانت تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية والمساهمة في الحياة العامة. أما الآن فالمجتمع يحاصرها ويحجم أدوارها، لذلك تشعر بالضعف والعزلة، ومن ثم تتجه إلى الأعمال الغيبيــــــة والدجاليـــــــــــــــــــــــــــــن.
وأوضحت هدى زكريا، أستاذة علم النفس بجامعة الزقازيق، لـ”العرب” أن هناك ردة نسائية، فالمرأة العربية -تاريخيا- لها أدوار إيجابية وفاعلة في المجتمع وكانت تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية والمساهمة في الحياة العامة. أما الآن فالمجتمع يحاصرها ويحجّم أدوارها العامة، لذلك تشعر بالضعف والعزلة، ومن ثم تتجه إلى الأعمال الغيبية والدجالين طلبا لقوة لا تمتلكها في الواقع.
الغريب أن عددا كبيرا ممن يمارسون الشعوذة والسحر من النساء أيضا، وهو ما يسهّل على المرأة تصديق ما ينقل إليها. وأرجعت هدى زكريا ذلك إلى الثقافة والرؤية الاجتماعية السائدة في العالم العربي، والتي تقوم على نظرية تقسيم الأدوار.
وجاهة اجتماعية
أكد محللون نفسيون أنه عندما تكثر المشاكل يُبدأ في التفكير في الاستعانة بقوى أخرى لها قدرة على تعديل الواقع، قوى لها صلة بعالم العرافة والشعوذة.
ورغم تطور الطب النفسي، إلا أن هناك من يعتقد بأنه مرتبط بالغيب والكثيرات من المصابات بأمراض نفسية وعقد اجتماعية يخفن من العلاج ويلجأن إلى الدجل للبحث عن حلول وهمية بعد انسداد أبواب الأمل.
في هذ الصدد أشارت ثريا عبدالجواد، أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس، إلى أن ظاهرة اللجوء إلى السحر والشعوذة والتمائم موجودة لدى الطبقات الدنيا والعليا، على حد سواء.
وتتعدد الأسباب والوسائل من طبقة إلى أخرى، فالمرأة المنتمية للطبقة الدنيا في المجتمع تلجأ لعرافين مغمورين يتقاضون مبالغ مالية ومواد عينية بسيطة لعمل تعويذة أو حجاب بسيط لحلّ مشكلاتها الأسرية.
وأضافت لـ”العرب” أن المرأة في الطبقات العليا، تلجأ إلى عرافين أو عرافات لشغل الفراغ، وطلبا لكشف الطالع وقراءة الفنجان لاستكشاف المستقبل، وهذا نوع من الوجاهة الاجتماعية.
يجمع العرافون والعرافات معلومات مسبقة توهم المرأة بالمصداقية والقدرة على فكّ الطلاسم. ويستغل المشعوذ أو المشعوذة الحاجة لعلاج حالة صحية مستعصية لا يداويها طبيب، أو آفة اجتماعية تتمحور عادة حول المحبة والكراهية والانتقام.
آمنة نصير، أستاذة الفقه بجامعة الأزهر وعضو مجلس النواب، اعتبرت الأميّة بين النساء ليست مسؤولة في حد ذاتها عن الاتجاه إلى السحر والاعتقاد في الغيبيات والتمائم.
وكشفت لـ”العرب” أن الأمهات والجدات كن لا يقرأن أو يكتبن ومع ذلك لم يذهبن إلى العراف لأنهن تمتعن بالوازع الديني القوي. ونوهت نصير إلى أن المشكلة الحقيقية تكمن في أميّة العقيدة والفكر، فالخطاب الديني والتنشئة الشكلية في المجتمعات العربية من العوامل التي تساعد على انتشار هذه الظاهرة.
فقصور التدين على الظواهر الشكلية مثل الحجاب والنقاب، دون التوعية الدينية السليمة، كرس لدى العامة أن أمورا مثل الجن والسحر والحسد موجودة في الأديان، بدون تقديم حلول علمية لمواجهته، وهو ما يدفع النساء إلى اللجوء إلى الغيبيات.
مواجهة الدجل بمحاصرته
تلعب الثقافة العامة السائدة في المجتمع دورا سلبيا وتساهم في انتشار هذه الظاهرة، إضافة إلى العوامل التراثية التي تقدم صورة ذهنية سلبية مرتبطة بالمرأة في اللجوء إلى الدجالين، وقد ألصقت الأعمال الفنية هذه الظاهرة دائما بالمرأة.
وفي هذا تقول ثريا عبدالجواد إن الإعلام يلعب دورا سلبيا في انتشارها، فالكثير من برامج القنوات الفضائية المتخصصة تتناول ظاهرة لجوء المرأة إلى العرافين والعرافات لحل المشكلات وتستضيفهم، ما يكرّس الاعتقاد في صحة الغيبيات ويساهم في تفاقمها.
وطالب الكثير من الخبراء أن تكون مواجهة الظاهرة على عدة مستويات، منها المواجهة القانونية بمعاقبة ومحاصرة العرافين الذين يقومون بمثل تلك الأعمال ويستغلون حاجات وضعف النساء لممارسة نشاطهن.
لكن المواجهة القانونية لا تكفي لوحدها، لأنّ غالبية من يمارسون الشعوذة يعملون في السر، ولا تجرؤ سيدة على كشف معالجها أو معالجتها الوهمية، خوفا من البطش الروحاني.
ومن الضروري تغيير التفكير العقلي للمرأة وتحويله في اتجاه الأفكار العلمية السليمة، ليكون العلم هو الرافد الأساسي لسلوكياتها، وكلما كان العلم متجذرا في المجتمع كلما أصبح المجتمع أكثر قدرة على مواجهة الخرافات والشعوذة.
وشددت آمنة نصير على أهمية المواجهة الدينية من خلال تكريس الإيمان الحقيقي الذي يعتقد في وجود الجان والسحر والحسد، لكن التعامل يجب أن يكون من منطق الإيمان بقدر الله خيره وشره، إضافة إلى أهمية التوعية الإعلامية للنساء في كشف زيف الظاهرة ومخاطرها، وتغيير الخطاب السائد حاليا، ووقف بث القنوات التي تنشر الخرافة والدجل، وإنشاء قنوات دينية توضح التعامل السليم مع الغيبيات.