ذ. رضوان المسكيني //نهى بريس//
في مقصورة القطار، في طريق العودة إلى الديار، بينما كنت جالسا مع زوجتي، دخل علينا في المقصورة رجل وامرأة مترافقين، ألقيا التحية بالفرنسية، استأذنا في الدخول، وضعا حقيبتهما في الرف واتخذا مكانا مقابلا لنا. شرعا يتحدثان بلغة غير واضحة المعالم، لم نتمكن من نسبتها لا إلى الفرنسية ولا الإنجليزية ولا الاسبانية، وبدافع الفضول، سألناهما بالفرنسية، ونحن في قطار يقطع المسافات في وطن، لغته الرسمية العربية والأمازيغية، عن اللغة التي يتحدثان بها، أجابا:
لغة رومانش.
وفي أي بلد يتحدثون هذه اللغة؟
في سويسرا.
وعندما أبديت استغرابي، استأنفت السيدة السويسرية حديثها، موضحة أن سويسرا بها لغات متعددة، أهمها أربعة: الألمانية، الفرنسية، الإيطالية والرومانشية.
ألا يشكل ذلك صعوبة في التواصل بين السويسريين؟
لم تعر كبير الاهتمام للسؤال، وأجابت:
إن الدستور الفيدرالي في سويسرا ينص على مبادئ أربعة: المساواة بين اللغات، حرية المواطنين بخصوص اللغة، إقليمية اللغات و حماية لغات الأقليات الثقافية.
وهل يتكلم السويسريون هذه اللغات الأربعة مع بعضهم البعض؟.
إن اللغات المستعملة في الحديث ترتبط بالـ ‘ كانتونات ‘ (الأقاليم)، فالتي تجاور ألمانيا يتحدث سكانها بالألمانية والتي تجاور فرنسا يتكلمون بالفرنسية وهكذا.
وعندما عبرت عن اندهاشي من كثرة اللغات الرسمية في بلد صغير كسويسرا، استأنفت حديثها قائلة:
إن عدد اللغات في العالم كبير، يزيد على 5 آلاف لغة حية وعدد لا يحصى من اللهجات. ثم سألتني عن اللغة الرسمية في المغرب. أجبت:
العربية والأمازيغية.
تساءلت، وهي تتصفح الدليل السياحي بالفرنسية، أليست الفرنسية لغة رسمية أيضا؟.
إن الفرنسية لغة فرضتها فرنسا إبان الفترة التي حكمت فيها المغرب، ومازالت متداولة في عدد من المصالح الإدارية بالمغرب. ورغم شيوعها فإنها ليست رسمية.
تتابع الحديث بيننا عن اللغات وأهميتها بالنسبة للتواصل مع الشعوب، وعدم الشعور بالغربة إذا كان الناس يتحدثون بنفس اللغة، فأشارت إلى أن بعض المفكرين حاولوا أن يخترعوا لغة عالمية يتحدث بها كل البشر حيثما كانوا في بلدانهم أو في بلدان بعيدة عنهم. ومنها لغة ‘ الإسبرانتو ‘ التي ابتكرها ‘ زامنهوف ‘ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. غير أنها لم تنتشر انتشار اللغة الانجليزية التي يبدو أنها قد تقوم بدور التواصل العملي بين الشعوب.
وأضاف السيد المرافق للسيدة، ولعله زوجها، إن في العالم حركة تدعو إلى إيجاد لغة مثل الاسبرانتو أو أختيار لغة من اللغات السائدة في العالم، والاتفاق دوليا على تدريسها في المدارس للناشئة إلى جانب اللغة الرسمية في البلد، من أجل أن تكون هي اللغة التي يتحدث بها الجميع، خارج أوطانهم، في مختلف جهات العالم، بحيث لو فرضنا أن هذه اللغة قد تعلمتها شخصيا في مدارس سويسرا وأنتم تعلمتموها في مدارسكم بالمغرب، كنا الآن نتحدث بها، ولكان التواصل بيننا سهلا يسيرا، بدلا من الصعوبة التي نلقاها في التواصل مع بعضنا البعض بلغة لا نتقنها تماما، ولوفّرنا المشقة التي نلقاها عندما نريد قضاء حاجة ونسأل شخصا لا يعرف سوى لغته الأم، ونحن نجهل التواصل بها.
بالإضافة إلى ذلك، قالت زوجته: إن الترجمة من لغة إلى أخرى تكلف جهدا ووقتا ومصاريف لا لزوم لها، كان بالإمكان توفيرها لو وجدت لغة عالمية مشتركة يتواصل بها جميع الناس. ففي الأمم المتحدة مثلا، حيث يلتقي ممثلو جميع الشعوب، تدعو الحاجة إلى ترجمة وثائقها الرسمية إلى ست لغات، الشيء الذي يكلف ميزانية كبيرة.
أدلت زوجتي بدلوها في الحديث، قائلة: إذا كان القصد من اللغة هو التواصل بين الناس، فإنه من تبذير الجهد والوقت والمال في أن نتعلم في مدارسنا عددا من اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والإيطالية أحيانا، بدلا من تعلم لغة واحدة تؤدي إلى نفس النتيجة، وهو التواصل. إذا كانت المسألة هكذا، فما الذي يمنع الناس من اتخاذ هذه الخطوة، ما دامت كل هذه الفائدة في تعلم لغة عالمية تفي بهذا الغرض؟. فسألتها السيدة السويسرية.
وما اللغة التي تقترحينها؟
أعتقد أن الإنجليزية قد فرضت نفسها.
قلت: لعل الفرنسيين والإسبان والعرب والصينيين يرون غير ذلك.
فقال الرجل السويسرى:
إن هذه المسألة ترجع إلى علماء اللغات، فالاستفادة من علمهم قد يدفع رجال السياسة، الذين يصنعون القرار، أن يتخذوا قرارا في هذا الشأن، باختيار لغة من اللغات السائدة أو أن يكلفوا لجنة من علماء اللغات لابتكار لغة سهلة الاستعمال، إذا توفرت لديهم الإرادة والنية الحسنة وخدمة الصالح العام للبشرية كلها.
وما أن أتم حديثه حتى أعلن البوق وصول القطار إلى محطة النزول. فتوادع الجميع شاكرين هذا الحديث الشيق الذي حملنا إلى التفكير في الوسائل التي تقرب بين الناس وتؤلف بينهم أكثر. وقد شعرت أثناء تواجدي في مقصورة القطار أن الإنسان الذي قطع شوطا بعيدا من التقدم الحضاري، وصار يلتقي مع أناس ينتمون إلى ثقافات ولغات متنوعة، قد لا يعجزه الابتكار أو الاتفاق على لغة واحدة يتفق الجميع على التفاهم والتواصل بها.