صحة

موازين الإدراك عند البشر

robot

بقلم: ذ. رضوان المسكيني //نهى بريس//

لابد لنا أن نتفق على أن هناك اختلاف كبير بين الناس فيما يتعلق بالطريقة التي يحتكم فيها الناس لمعرفة الحق من الباطل والصحيح من الصواب، والأجدر بالذكر أن هذه الطريقة تعرف في عرف الفلاسفة ب “موازين الإدراك” وهي في حد ذاتها أدوات ووسائل تمكن الشخص من مدى معرفة مؤشرات ثبات الإنسان كتلك التي تتعلق بأفكاره أو معتقداته ومدى استنادها إلى أسس تفكير سليم .
وكيفما كانت هذه الوسائل التي تخول للإنسان كيفية الحصول على المعلومات والوسائل ( مادية أو معنوية) و التي تساهم في ترسيخ مبادئه ومعتقداته إلا أن مناقشتها تتطلب تفكيرا متميز، وعقول نيرة.
كما هو مسلم به فللبشر أربع موازين للإدراك لاغير في اكتساب الأفكار والمبادئ وهي :

(1) ميزان الحواس.

(2) ميزان العقل.

(3) ميزان النقل ويعرف ب( الاستدلال) ويؤخذ من الكتب سواء سماوية أو وضعية.

(4) ميزان الإلهامات الإنسانية أو ما يسمى بالخواطر القلبية.

لذلك يجب مناقشة هذه الوسائل (الأدوات) والتأكد إن كانت موازيناً صحيحة تامة يمكن الاعتماد عليها اعتماداً كاملاً في تقويم سلوك الإنسان في أي مجتمع من المجتمعات على اختلاف درجات تقدمها، أم أنها معرضة للخطأ والصواب، وهل هي أدوات نسبية تختلف باختلاف قوة الحواس وقوة العقول ومستوى ثقافات الشعوب أم لا؟ وهل يمكن الاكتفاء بواحدة أو اثنين منها أو لابد منها جميعا؟
لتوضيح هذه الأفكار والإجابة على هذه الأسئلة سنحاول تقريب القارئ الكريم من الصورة التي رسمها الأستاذ إبراهيم سيفي في كتاب “قبسات “.
استعمل الفلاسفة القدماء ميزان العقل باعتباره ميزاناً تاماً لا يخطئ مستندين بذلك على القراءة والنقاش والتفكير والتأمل، وسطّروا كل ما فكّروا به واستنتجوه كنتائج صحيحة نهائية لا حياد عنها ومعلومات وأفكار راقية هي غاية ما وصل إليه العقل البشري. لكن بعض علماء الاجتماع في أوربا والعالم اليوم يعيبون على أولئك الفلاسفة تلك الطريقة في التفكير ويقولون بعكسها، وأعلنوا أن ميزان الحس هو المقياس الصحيح الذي لا يخطئ في اكتساب العلوم، بعد اكتشافهم الكثير من الأخطاء في تلك النظريات القديمة. وهذا أمر طبيعي، لأنهم اعتمدوا في قياساتهم على ميزان الحواس الذي لم يركز عليه من قبل، وكان لابد لهذا الميزان من مقاييس جديدة مختلفة لا تتفق مع القياسات السابقة.
وفي المقابل، بقي معتنقو الديانات السماوية يعتبرون المصدر الحقيقي للعلم والقياس هو ما تذكره الكتب السماوية باعتباره كلام حق من عند الله سبحانه وتعالى، ولكنهم في العقود الأخيرة، وجدوا أنفسهم أمام نظريات علمية بحتة لا تقبل الخطأ ولا يمكن تفنيدها، مما اضطرهم الى مجاراة الاكتشافات العلمية الحديثة والتسليم بصحتها وتحوير أفكارهم بما يتوافق معها. وكلما اكتشف العلم شيئاً جديداً، سارعوا الى إثبات صحته وتأييده من نصوص كتبهم بعد أن كانوا غافلين عنها.
والحقيقة.. لولا هذا التسلسل العلمي والتدرّج الفكري التاريخي البشري لمختلف شعوب الأرض، ولولا جهود أولئك العلماء الأفاضل بمختلف مشاربهم، لما تجددت الأفكار وظهرت المكتشفات العلمية، فمن خلالهم استطاعت البشرية إدراك مكمن حقيقة الرأي الصحيح وأي القياسات كانت أقرب الى الصواب، ولما تمتعت البشرية بالإنجازات العلمية، فجميعهم ساهم قدر استطاعته في إظهار جانب من وجه الحقيقة وإبراز شكل من أشكالها.
الميزان الأول:

إذن.. لنبدأ بمناقشة الميزان الأول، وهو (ميزان الحواس الخمسة)، الذي يشمل:- حاسة البصر (العين)، حاسة السمع (الأذن)، حاسة الشم (الأنف)، حاسة التذوق (اللسان)، حاسة اللمس (اليد ومجموعة الخلايا الحسية المنتشرة في جسم الإنسان).

هذه هي مجموعة الحواس الجسدية المادية التي يستقبل بها الإنسان معلوماته كما هو متفق عليه علمياً، وهو ما يسمى بالميزان الحسي، وهو ما يعتبره بعض فلاسفة أوروبا أكمل وأتمَّ ميزان، ويقولون انه أعظم الموازين ويرفضون كل ما يقاس بغيره. لكنه في حقيقته ناقص غير كامل، لأنه يخطئ في بعض الأحيان، ولهذا السبب لا يمكن الاعتماد على موازينه وقياساته ونتائجه اعتماداً كلياً، وهذا ما يفتح باب مراجعة جميع النظريات التي استندت في مفاهيمها واستنتاجاتها عليه.

فمثلاً قد يخطئ البصر أحياناً – وهو أعظم قوى الحس – فيرى السراب ماءً، والصور في المرآة حقيقة موجودة، والأجسام الكبيرة البعيدة صغيرة الحجم، والنقطة الجوالة دائرة، والأرض ساكنة، والشمس متحركة، ويرى راكب القطار أو الطائرة الأرض متحركة، الى غير ذلك من الأمور التي تشتبه على البصر. هذا بالإضافة الى ان العين ما هي إلا نافذة صغيرة ضيقة لا تحس إلا بحيز ضيق من مدى الأمواج الكهرطيسية التي تعطي الألوان السبعة المعروفة. وقد يكون الفضاء مشحونا بأضواء هائلة وصور متنوعة وقوى خفية متعددة، ولكن لا يرى منها إلا تأثيراتها، مثل الكهرباء والأثير والجاذبية… لأنها خارجة عن نطاق حاسة البصر. هذا بالإضافة إلى أن هذه القوة تعتبر ناقصة بدون مشاركة بقية الحواس.
أما حاسة السمع، فهي أداة غير تامة أيضا، لأن دورها يقتصر على استقبال المعلومات ثم نقلها إلى العقل لإدراكها وفهمها، وكثيراً ما تلتبس الأصوات على السامع فيعتقد انه سمع فلاناً يتكلم بينما هو غير موجود، وآخر يسمع صوتاً، بينما لا يسمعه من يقف بجانبه، هذا بالإضافة الى ان سليم السمع لا يمكنه الاستغناء بسمعه عن بقية حواسه.
ان ميزان الحواس هو ميزان غير تام لا يمكن الاعتماد عليه اعتمادا كلياً في اكتساب العلوم والمعارف والتمييز الدقيق بين الأشياء.

أما الميزان الثاني:

فهو ميزان العقل. وكان يعتبر ميزان الإدراك والفهم المثالي التام لدى الفلاسفة الأوائل أساطين الحكمة، وكانوا يستدلون به ويتشبثون بما يستنتجونه من دلائله وما يفكرون به ويتأملونه من مسائل وأمور فكرية، لأن استدلالاتهم جميعها كانت عقلية. ومع ذلك كانوا يختلفون في آرائهم ونظرياتهم العقلية، فيغيرون ويبدلون ويتراجعون على الدوام، فكانوا يستدلون على إثبات مسألة ما بالدلائل العقلية لمدة عشرين سنة ويعتقدون بصحتها ويدافعون عنها بكل قوة، وبعدئذ ينفونها ويناقضونها ويستنبطون فكرة أخرى مخالفة لها تماماً، ويستدلون عليها بالدلائل العقلية أيضاً. حتى إن أفلاطون أثبت في البداية، وبالأدلة العقلية سكون الأرض وحركة الشمس، ثم عاد بعد ذلك ليثبت بالدلائل العقلية ذاتها، أن الشمس هي المركز والأرض متحركة، ثم ظهرت واشتهرت بعده نظرية بطليموس التي تقول بعكس ذلك ونسيت نظرية أفلاطون بالكلية.
إن ميزان العقل ليس ميزاناً تاماً، لأن اختلاف الفلاسفة الأوائل وتبديل أفكارهم وعدم ثباتهم على آراء متفقة، هو دليل على نقص ميزان العقل، فلو كان تاماً، لوجب اتفاقهم في الرأي واتحادهم في الفكر وتشابه نظرياتهم وأفكارهم لأنهم يمثلون قمة العقل الإنساني، هذا بالإضافة إلى ما جدَّ من أدلة علمية في العقود الأخيرة تؤيد هذا الرأي.

الميزان الثالث:

ميزان النقل أو الاستدلال، وهو ما يستشفه عقلاء الناس ومفكريهم من معاني النصوص بعقولهم من الكتب المقدسة والدينية والوضعية وغيرها، فيقولون جاء في التوراة والإنجيل كذا، وكتب العالم والفيلسوف الفلاني كذا وكذا.. فيستندون عليها باعتبارها كلاما لا يتطرق إليه الشك.

وهذا الميزان ليس بتام ولا بكامل أيضاً، لأن الناقل أي (القارئ) يدرك معاني المنقول أي (مجموعة المفاهيم) من الآيات والنصوص بميزان عقله. وبثبوت إمكانية خطأ ميزان العقل، ثبت كذلك عدم إمكانية الاعتماد على الاستنباطات العقلية كمصدر تام لمعاني ومفاهيم الأقوال المنقولة من الاستدلالات، لذا كان من الممكن حصول الخطأ والسهو في هذا الميزان أيضا، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه بيقين تام.
الميزان الرابع:

ميزان الإلهامات الإنسانية، أي ما يراه الناس في منامهم وقيلولاتهم من رؤى يعتقدون أنها إلهامات حقيقية صحيحة ترشدهم الى الطريق السليم، ان كانت في أمور الخير أو الشر، فهذا يرى في منامه إماما أو تقياً يرشده لعمل ما أو يثنيه عن فكرة معينة، وهذا يعتقد اعتقاداً جازماً أن ما رآه هو حق لا ريب فيه، فيقدم أو يتراجع عن نيته عند استيقاظه.
ان ميزان الإلهامات الإنسانية لا يمكن الاعتماد عليه أيضا، رغم ثقة بعض الناس به كل حسب مجتمعه وبيئته وعقيدته، لا فرق بين غني وفقير وعالم وجاهل ولا بين شرقي وغربي، فمن المحتمل ان تكون الرؤيا أضغاث أحلام أو من وساوس النفس الشيطانية أو من الإلهامات الحقيقية. فقد يفعل الإنسان عملا سيئاً يستهجنه العرف ويستنكره المجتمع، بينما يعتقد هو بطهارته، وقد يمتنع آخر عن عمل طاهر مفيد وهو يظن انه منكر من أعمال الشر. لذلك يصعب على الرائي معرفة حقيقة هذه الإلهامات الإنسانية.

زر الذهاب إلى الأعلى
مستجدات